حسين عبد الرازق.. الصحافي والسياسي العصامي

قاد حسين عبد الرازق معركة مريرة مع لجنة الخمسين - ممثلاً فيها اليسار- التي كتبت دستور عام 2014 الحالي، الذي يُعتَبر من أعظم الدساتير المصرية لو قُدِّر له أن يُطبَّق بجديةٍ.

في 30 آب/أغسطس الماضي، نعى حزب التجمّع المصري القُطب اليساري والكاتِب الصحافي حسين عبد الرازق، أحد مؤسّسيه وأمينه العام السابق وعضو مكتبه السياسي، ورئيس  مؤسّسة خالد محيي الدين الثقافية، ورئيس التحرير السابق لصحيفة الأهالي، وممثّل  اليسار في لجنة الخمسين لإعداد الدستور. وقد كان للراحِل دوره التاريخي في مسيرةِ الصحافةِ المصرية واليسار وحزب التجمّع.

عبدالرازق من مواليد 4 تشرين الثاني نوفمبر 1936، وتخرَّج من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، عام 1961.

بدأ عبد الرازق حياته الصحافية في جريدة الأخبار مُتخصِّصاً في الشؤون الإفريقية، وكان يكتب عموداً بانتظامٍ بعنوان شؤون إفريقيا. ثم عمل في صحيفة الجمهورية ضمن مركز الأبحاث التي كانت تمثّل في ذلك الوقت اليسار في الصحافة المصرية، وكتبَ الكثير من التحليلات والدِراسات والتحقيقات الصحافية حول قضايا عربية وعالمية، وتم فصله ضمن أكثر من مائة صحافي فصلتهم لجنة النظام في الاتحاد الاشتراكي في شباط -  فبراير 1973، وعاد إلى عمله قبيل حرب أكتوبر – تشرين الأول. ثم انتقل لفترةٍ إلى صحيفةِ الأخبار، وظلّ ممنوعاً من العمل والكتابة في الصحف التي عمل فيها حتى موته.

لعبَ عبد الرازق دوراً تاريخياً في تأسيس حزب التجمّع وصحافته منذ عام 1976. فبعد أن رفضَ السادات إنشاء منبر ناصري وخصّه بهجومٍ كاسحٍ فى خطابٍ عَلني له، كان التوجّه لوحدة قوى اليسار باندماج التقدّم والناصري، وشهد شهر آذار - مارس 1976 جلسات مُكثّفة في مكتب خالد محيي الدين في مبنى الاتحاد الاشتراكي، الذي احترق في ما بعد، وكانت تمثل الجانب الماركسي والشيوعي فيها أسماء لامِعة في سجل الوطنية المصرية، على رأسهم خالد محيي الدين وإسماعيل صبرى عبدالله وفؤاد مرسي ولطفي الخولي، وعلى الجانب الناصري كان كمال رفعت وعبد الحميد عطية وأحمد الجمال.

وكان حسين عبدالرازق من الذين يدفعون بإخلاصٍ وتجرّدٍ وحماسٍ لهذه الوحدة، وانتهى الحوار بين طرفيه اليسار الماركسي واليسار القومي بالاتفاق على إسم التكوين الجديد، الذي صار "التجمّع الوطني التقدمي الوحدوي".

كان عبد الرازق من أوائل مؤسّسي منبر اليسار الذي أصبح في ما بعد جزءاً من "حزب التجمّع الوطني التقدمي الوحدوي" فتولّى مسؤوليات عدّة من مسؤولٍ الحزب في القاهرة إلى مسؤول العمل الجماهيري فيه، إلى أن اختيرَ رئيساً لتحرير"الأهالي" في بداية إصدارها الثاني مع "عديله" صلاح عيسى الذي تولّى مسؤولية مدير التحرير. فكانت أكثر الصحف مُعارضة وتأثيراً، فكانت صوتاً لكل الوطنيين في مصر والوطن العربي. ووصل توزيعها إلى ما يتجاوز 150 ألف نسخة، إلى درجة أن أعداداً كبيرة من القرّاء كانوا ينتظرون مساء الثلاثاء أمام مطابع الأهرام ليأخذوا عدد صحيفة الأهالي قبل أن يوزَّع في اليوم التالي.

لم يمنع المشوار السياسي والثقافي الذي خاضه حسين عبد الرازق من ممارسة أنشطة أخرى، فخاض تجربة العمل الأدبي، حيث حملت إسمه 8 قصص قصيرة، وأصدر كتباً عدّة أهمها كتابه المُعنَون "الأهالي تحت الحصار"، يتحدّث فيه عن تجربته، ويؤرِّخ لما عانته صحيفة الأهالي من حُكم الرئيس حسني مبارك، وكتابه "مصر في 18و19 يناير"، الذي يقدِّم فيه بانوراما تسجيلية لأحداث الانتفاضة الشعبية عام 1977. فهذان الكتابان يسدّان فراغاً هائلاً في تاريخنا المُعاصِر حول أهم صحيفة حزبية ظهرت بعد الإنهاء الرسمي لنظام الحزب الواحد وظهور الصحف الحزبية.

كما يُقدِّم وثيقة تاريخية حول انتفاضة شعبية كبرى بلا تزويق أو تزييف، بل بالوثائق والمحاضر. كما أصدر كتاباً عما يجري في العراق وكتاباً آخر عن التجربة الخليجية في مصر. وكان آخر كتبه كتابه المُثير للجدل الذي ألّفه باللغة الإنكليزية عن نجل الرئيس الأسبق قبل ثورة 25 يناير – كانون الثاني، وحمل إسم: "جمال مبارك: السياسي الأكثر نفوذاً في مصر".

بعد تركه لصحيفة "الأهالي" أسّس مجلة "اليسار" في آذار/مارس 1990 التي استمرت حتى نهاية التسعينيات من القرن الماضي، ووضع لها شعاراً هو "راية المُستضعَفين في الأرض" وقول أبي ذر الغفاري "عجبت لمن يبيت على الطوي كيف لا يخرج شاهراً على الناس سيفه"، والتي استقطبت أهم الكتّاب في مصر والعالم العربي، وأُغلِقت في ما بعد بسبب العجَز المالي.

وتم اعتقاله مرات عدّة أولها أثناء الانتفاضة الطلابية سنة 1972، ثم في كانون الثاني - يناير سنة 1977 بعد أحداث 18 و19 كانون الثاني - يناير، وكذلك اعتُقل سنة 1979 ثم في آذار - مارس 1981، وكان ضمن المُعتقلين في حملة أيلول/سبتمبر التي شنّها الرئيس أنور السادات على عددٍ واسعٍ من مُعارضيه في ذات العام.

أروع ما في الموت أنه يجعلك تتحدّث بصفاءٍ عمّن التحق بالرفيق الأعلى، فتتدافع المشاهد الجميلة التي عاشها زملاء حسين عبد الرازق معه، فاشتُهِرَ عنه تميّزه بأخلاقيات رفيعة. إنه يختلف معك، لكن ذلك لا يمسّ احترامه أو تقديره لشخصك.

يروي صديق عُمره رئيس مجلس إدارة صحيفة "الأهالي" نبيل زكي كيف أعربت المذيعة عن دهشتها البالغة بعد المُناظرة التي أجرتها بين المرشَّحين على رئاسة حزب التجمّع حسين عبد الرازق ونبيل زكي: "أوقفت المذيعة التلفزيونية حركة الكاميرا، قالت: هذه أول مرة أُسجِّل فيها مُناظرة بين مرشّحين مُتنافسين على رئاسة حزب سياسي من دون أن يتعرَّض أيّ مُنافِس منهما للآخر بكلمةِ نقدٍ واحدة، بل إن كلاً منهما يتحدّث عن منافسه باحترامٍ شديدٍ ومودةٍ غير عادية".

كان حسين عبد الرازق شديد التواضع، فهو لا يمانع، مثلاً في أن يعرض على الصحافي محمود المراغي أن يتولّى بدلاً منه رئاسة التحرير، ويتولّى هو "حسين" موقع مدير التحرير، حتى يقنع محمود بقبول تولّي المسؤولية في "الأهالي".

ويحكي لنا الصحافي أحمد عبد التوّاب الذي عمل مع عبد الرازق عندما كان يتولّى رئاسة تحرير الأهالي، أنه "اختلف معه وقدَّم استقالته، فرفض عبد الرازق الاستقالة، إلا أنه بعد مُجادلات طويلة وافق عليها. يقول عبد التواب: "ثم في الصباح الباكِر لصدور أول عدد لم أشارك فيه طلبني على التلفون، وتساءل في جدّية مُصطنَعة عن هذا الخطأ الفادِح في الصفحة الأولى، الذي تسبّبت فيه، فتعجّبت من أن ينسى ذو الذاكراة الحديدية أنني لم أعد هناك، وبعدها بدقائق توالت مُكالمات الزملاء يخبرونني أن افتتاحية الأهالي مكتوبة في تحيّتي، لأن هذا أول عدد لم أشارك فيه منذ التأسيس عام 1978. وكانت هذه المُفاجأة أعدَّها لي. وعندما التقينا قال لي ضاحِكاً: أنه أدخلني التاريخ كأول مستقيل تشكره جريدته على مجهوداته".

لقد قاد حسين عبد الرازق معركة مريرة مع لجنة الخمسين - ممثلاً فيها اليسار- التي كتبت دستور عام 2014 الحالي، الذي يُعتَبر من أعظم الدساتير المصرية لو قُدِّر له أن يُطبَّق بجديةٍ وألا تختفي نصوصه ويتم التحايل عليها. حيث يعتبر عبد الرازق أم  مواده هي"تجسيد لمبادئ وأهداف ثورتي 25 يناير و30 يونيو اللتين تُعدّان استمراراً لثورات وانتفاضات مصر وتجاوزها لها، سواء الثورة العُرابية أو ثورة 1919، وانتفاضة الشباب 1935 أو الحركة الوطنية للطلبة والعمّال 1946 وصولاً إلى ثورة 1952 وانتفاضة 18 و19 يناير 1977".

اهتم عبد الرازق في اللجنة بالحقوق الاجتماعية للمصريين، وكان خلف محمّد غنيم في سعيه لزيادة نسبةٍ من الدخل القومي على التعليم والصحّة، وللأسف يتم الاحتيال على هذه المواد بطُرقٍ مختلفة. وأيَّد بشدّة مواد الحريات العظيمة الموجودة في هذا الدستور، والتي قيَّدت حال إعلان الطوارئ وقيَّدت الحبس الاحتياطي.

وفي المواد الخاصة بالحُكم أيَّد عبد الرازق الدولة المدنية و"الحُكم المدني" وهو النظام القائم على السلطات الثلاث من تشريعية وتنفيذية وقضائية. وأيَّد الاتجاه الذي نادى بتوسيع صلاحيات البرلمان ممثّل الشعب، وإلغاء حلّ البرلمان إلا بالاستفتاء من الشعب.

لم توافق لجنة الخمسين لصوغ الدستور الجديد على اقتراح عبدالرازق على إضافة مدنية إلى المادة الأولى من الدستور والتي تقول "إن جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة"، فالدولة المدنية تعني خضوع كل الدولة للقانون فلا يوجد أحد فوق القانون، ولا يوجد حاكِم أو سلطة أو فرد فوق القانون.

ظلّ عبد الرازق قيادياً ومشاركاً في كل فعاليات حزب التجمّع واليسار حتى الرَمَق الأخير. فهو المؤسّس والرئيس لمؤسّسة خالد محيي الدين حتى آخر عُمره، التي تهدف إلى إعداد الكوادر لحزب التجمّع.

وعلى مدار 30 عاماً، لزم "عبدالرازق" صفّ المعارضة لنظام الرئيس الأسبق مبارك، وسارع بدعم ثورة 25 يناير، ثم دعا إلى ثورة 30 يونيو - حزيران للإطاحة بحُكم الرئيس محمد مرسي.

ترك عبد الرازق ميراثاً كبيراً في الصحافة والسياسة والعمل الحزبي والنقابي.

ويبقى الأمل في زوجته فريدة النقاش أن تتابع نشر تراثه بالتنسيق مع مؤسّسات الدولة المصرية الثقافية. نقدم خالِص العزاء للسيدة فريدة النقاش، رفيقة درب حسين عبد الرازق، صاحبة كتاب "السجن دمعتان وورد"، الذي يتحدّث عن تجربتها مع زوجها، ومُعاناتهما في السجون المصرية.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]