ما هي أزمة مدينة الثقافة في تونس؟

"الخيبات" تطرح أسئلة كثيرة حول كيفية إدارة برمجة الأنشطة في "مدينة الثقافة"، فضلاً عن السؤال الكبير عن حقيقة إغلاق المدينة أبوابها في أواخر تموز/يوليو الماضي حتى أيلول/سبتمبر المقبل لأعمال الصيانة، وفق ما أعلنته إدارة "مدينة الثقافة".

ليست مشكلة "مدينة الثقافة" في تونس، أنه ما إن فتحت أبوابها للعموم بعد انتظار طال سنوات عجاف وشرعت في احتضان أنشطة ثقافية متنوّعة حتى أغلقتها الوزارة، وليست مشكلتها أنها مشروع بن علي الرئيس الهارب كما يسوّق لذلك بعض المُثقّفين، على اعتبار أن هذه المدينة ماهي إلا ترميم مونتاجي لذاكرة تحنّ للاستبداد من خلال استمرارية بعض مشاريعه. ليس هذا ولا ذاك. مدينة الثقافة إنجاز حضاري نموذجي يحسب لتونس، بل ويحسب لكل العرب.

إذ لأول مرة توجد مدينة بأكملها مخصّصة للثقافة فحسب، وتُرصَد لها أموال ضخمة، ناهيك عن أجور الموظفين الذين يشتغلون فيها. يؤكّد هذا المنجز الضخم حقيقة الخيار الحضاري التونسي والذي يؤمن قبل كل شيء بأهمية الثقافة في تكوين الشخصية التونسية. هذه الشخصية التي هي عماد تقدّم تونس وتطوّرها بين الأمم وهو خيار بنى عليه الحبيب بورقيبة أسُس تونس الحديثة. لذلك جاءت هذه المدينة مخصّصة للتظاهرات والأنشطة الثقافية فقط لا غير، ومفتوحة لكل التوجّهات الثقافية ومستوعبة لكل القطاعات من مسرح وأدب وفكر وموسيقى ورقص وسينما، وصولاً إلى الفن التشكيلي والتراث الشعبي.

هذا يجعل من مدينة الثقافة مهرجاناً ثقافياً مفتوحاً كل الوقت وعلى مدار السنة، ويخلق حركية إبداعية من شأنها أن تحفّز طاقات الابتكار بما ينوّع من الإنتاج الإبداعي ويراكمه في سياق من التنافس نحو الأرقى والأجمل.

بعد مدينة العلوم وفي ثاني أهم شارع في قلب العاصمة التونسية، ترتفع "مدينة الثقافة" في تصميم معماري ذي طابع جمالي أخّاذ يمزج بين التراث المعماري الإسلامي من حيث الأقواس والثياب والأعمدة، وبين الهندسة المعمارية الحديثة من حيث الاشتغال على فضاء الزوايا والتصريحات ذات البُعد التركيبي حيث تشكّل الفنون الرئيسية السبعة ميزة مدخلها الرئيسي.

وقد احتوت المدينة على قاعات عروض سينما ومسرح وقاعات الندوات، إضافة إلى فضاءات هي عبارة عن ورشات تدرّب وكذلك قاعات متعدّدة الاختصاصات ومتاحف وغيرها.

بدأ التحضير لهذه المدينة منذ العام 1992، إلا أن الأشغال انطلقت بها عام 2003. ليست "مدينة الثقافة" مجرّد مركز ثقافي أو مجتمع ثقافي، لكنها مدينة صغرى مخصّصة للثقافة فقط.

لطالما دعا المثقفون التونسيون لإقامة مثل هذه المدينة. فهم مؤمنون بأن تونس العاصمة كانت وما تزال مركزاً حضارياً مهماً وهي بوابة أفريقيا للغرب. كما أنها مُلتقى حضارات الشرق والغرب.

كانت "مدينة الثقافة" حلم كل مثقّف تونسي لما قد يحمله إسمها من رمزية بوصفها مأوى وملاذاً وموضع تجل يفتح أبواب الإبداع على مصراعيها بعيداً من المراهقات الأيديولوجية. هكذا تم تدشين المدينة في 21 آذار/مارس 2018 بحفل موسيقي ضخم شاركت فيه "أوركسترا مدينة كارمن" بقيادة الأوكراني فلاديمير شايكو. لكن هنا كانت بداية الشعور بالخيبة لدى أغلب المثقّفين التونسيين. فقد رأوا أن إشراك فرقة أجنبية في حفل التدشين استهانة بالقدرات الفنية الإبداعية التونسية.

هذا الأمر حصل أيضاً مع توالي الأنشطة ومنها ندوة الرواية العربية التي أنجزها "بيت الرواية" تحت إشراف الروائي كمال الرياحي، والتي كرّمت الروائي إبراهيم الكوني. فصحيح أن الندوة حقّقت نجاحاً باهراً، لكنها شكّلت خيبة ثانية عند بعض المُثقفين من الروائيين والنقاد التونسيين الذين لم يتم إشراكهم في الندوة، وهي الخيبة نفسها التي أصابت الشعراء إبان تنظيم "أيام قرطاج الشعرية" الأولى.

هذه "الخيبات" تطرح أسئلة كثيرة حول كيفية إدارة برمجة الأنشطة في "مدينة الثقافة"، فضلاً عن السؤال الكبير عن حقيقة إغلاق المدينة أبوابها في أواخر تموز/يوليو الماضي حتى أيلول/سبتمبر المقبل لأعمال الصيانة، وفق ما أعلنته إدارة "مدينة الثقافة".

على أية حال، يبدو أن المشكلة الراهنة ليست في كيفية تحديد البرامج والأنشطة وإدارتها بشكل تقني. فــ "المدينة" يتوافر فيها طاقم إداري ضخم، لكن في المحصّلة هم مجرّد موظفين، وعليه فإن الأمر يتطلّب إنشاء مجلس إدارة فني يكون أعضاؤه ممثلين من مختلف المنظمات الثقافية التونسية مثل اتحاد الكتّاب وبيت الشعر والمسرح الوطني وجامعة مسرح الهواة ورابطة الكتّاب واتحاد الفنانين التشكيليين ونقابة الصحفيين، إضافة إلى أعلام الثقافة في تونس من مختلف القطاعات.

إذ عندها يكون لهذا المجلس صلاحية اتخاذ القرارات بشكل مستقل عن وزارة الثقافة. وبهذا الشكل يمكن ان تأخذ "مدينة الثقافة" استقلاليتها وبُعدها الحضاري الأصحّ، إذ أنها في وضعها الحالي ليست أكثر من مكتب من مكاتب وزارة الثقافة، وهو ما يزيد في أزمة الثقافة في تونس.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]