جريمة قتل بموجب القانون!
الطبيب تشودي دبّر خطته الجهنمية للتخلّص منها بعد أن حبلت منه في السرّ، وخشي أن تصبح عبئاً عليه وأن تستطيع، إذا ما شبّ بينهما نزاع، أن تجتذب الكثير من الناس في صفّها، خصوصاً أنها كانت مُعتزّة بنفسها وجذّابة ومتعلّمة إلى حدٍ ما، وكان يرى شيوع هذه الفضيحة نهاية لمركزه الاجتماعي والمهني.
ولِدت أنّا غولدي Anna Göldi من عائلة فقيرة في سِنفــالد Sennwald بسويسرا عام 1734، واضطرت في شبابها إلى العمل خادمة في البيوت، فالتحقت بعائلة الطبيب يوهان يعقوب تشودي (1747-1800 ) Johann Jacob Tschudi في مقاطعة غلاروس Glarus لرعاية بناته الخمس.
كانت غولدي حينها تبلغ من العمر أربعين عاماً. طويلة القامة مع مظهر مزهر، بشعر أسود وحاجبين أسودين، وعينين رماديتين، وكانت هزيلة بعض الشيء، وعادة ما تهمل مظهرها. ترتدي تنورّة ذات لون معتدل وسترة الداماسك، وجوارب رمادية وبيضاء وقبعة سوداء تضع تحتها وشاحاً حريرياً أسود.
بعد مدة اتُّهِمت غولدي بأنها سحرت الإبنة الثانية للطبيب تشودي، آن ميغيلي Anne-Miggeli البالغة من العمر ثماني سنوات، وزعمت الشائعات أنه تم العثور على إبر في وعاء لبن الطفلة وخبزها، وفي وعاءِ الطفلة سوزان شقيقتِها الصغرى. وتزامن طرد أنَّا غولدي من المنزل مع سقوط آن ميغيلي طريحة الفراش وقد انتابتها تشنّجات وحمّى قوية، وقيل إنها كانت تبصق الدم والإبر في كل يوم.
رأت سلطات غلاروس حينها أنّ أنّا غولدي مارست السحر الأسود على الطفلة، فأمرت بتوقيفها وإخضاعها للتعذيب في 21 شباط/فبراير 1782، واعترفت تحت التعذيب الرهيب، أنها عقدت معاهدة مع الشيطان الذي رأته في شكل كلب أسود فرض عليها اتباع أوامره بإساءة معاملة الطفلة.
في السجن وضعت أنّا طفلاً شبيهاً بالطبيب تشودي، مشغِّلِها السابق، لكنه توفى سريعاً، لتضاف هذه الوفاة إلى التهم الموجّهة ضدّها.
وفي إطار التحقيق أدلت ابنة تشودي بشهادة ساحقة في نظر القضاة: "في يوم، أعطت غولدي الطفلةَ حلوى وطلبت منها ألا تخبر والديها".
كانت المحاكمة سريعة وخاضعة للرقابة الإعلامية جزئياً؛ إذ أراد القضاة تجنّب ذكر تهمة السحر التي كانت تخرج عن السيطرة في ذلك الوقت، واكتُفي باتهام غولدي بتسميم الطفلة، للحد من نطاق هذه القضية.
وقرّرت المحكمة، التي كانت تتكوّن من أقارب وأصدقاء الطبيب تشودي، إدانة أنّا بقطع رأسها في الساحة العامة.
وفي 13 يونيو 1782 تم إعدامها ودفن جثتها عند سفح السقال.
اعْتُبِر الحُكم غير عادي بالنسبة لأوروبا التي كان التنوير في ذلك الوقت قد تغلغل بالفعل إلى مناطقها الريفية. وكانت الطبقات العليا، المتعلّمة بخاصةً، قد أقلعت عن الإيمان بالخرافات، وبصفته طبيباً وحقوقياً كان يوهان تشودي منتمياً إلى هذه الطبقة.
في 2007 وبعد 226 عاماً أقرّ المجلس الأعلى لمقاطعة غلاروس براءة أنّا غولدي من تهمة الشعوذة التي أدّت إلى قطع رأسها. والحقيقة أن الطبيب تشودي دبّر خطته الجهنمية للتخلّص منها بعد أن حبلت منه في السرّ، وخشي أن تصبح عبئاً عليه وأن تستطيع، إذا ما شبّ بينهما نزاع، أن تجتذب الكثير من الناس في صفّها، خصوصاً أنها كانت مُعتزّة بنفسها وجذّابة ومتعلّمة إلى حدٍ ما، وكان يرى شيوع هذه الفضيحة نهاية لمركزه الاجتماعي والمهني.
هكذا أصبحت أنّا غولدي موضوعَ إلهام لعددٍ من الأفلام والقطع الموسيقية والمسرحيات. وتم افتتاح متحف موليس Mollis سنة 2007 الذي يتضمّن قاعات تعرض قصة غولدي ووثائق ذات صلة بمحاكمتها ومقتطفات من فيلم (آخر ساحرة) الذي يحكي سيرتها، مع أدوات التعذيب التي كانت تستخدم في إجبارها على الاعتراف بارتكاب ما نُسِبَ إليها.
يعتقد الصحافي والتر هاوزر، وهو مؤلّف كتاب "التحرّي عن آنا غولدي"، أنها كانت ضحيّة حكم تعسفي وأن الوقت قد حان لتعترف سلطات غلاروس ببراءتها.
وبالفعل بعد 226 سنة من إدانتها وقطع رأسها، برّأها برلمان غلاروس وَوُصِفتْ محاكمتها بأنها "جريمة قتل بموجب القانون".
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]