المكتبة الظاهرية في دمشق... تاريخ عصيّ على الزمن
لا يقع المطلع على أي من المخطوطات الدمشقية إلا ويعثر فيها على ذكر للمكتبة الظاهرية التي ساهم موقعها إلى حد كبير في تحديد أهميتها لزمن طويل. ما هي هذه المكتبة؟ ومن أسسها؟ وأين أصبحت اليوم؟
حظيت المدارس ودور العلم بمكانة خاصة نظراً لدورها في نشر العلوم والثقافة حتى اكتسبت هذه المكانة أهميتها التاريخية.
في العاصمة السورية كان للمدارس دور بارز في استعادة دمشق لمكانتها الثقافية التي كانت قد احتلتها في زمن الحكم الأموي، حيث اجتذبت عدداً كبيراً من العلماء الذين تَرَكُوا بصمات واضحة خلفهم.
صحيح أن هذه المدارس قد تعرضت للدمار الكامل أو الجزئي إما بفعل الكوارث الطبيعية أو الإهمال أو الحرق على يد التتار والمغول، لكن كان يعاد بناؤها وترميمها وإن أدى ذلك إلى امحّاء آثار منها أو طمس بعض معالمها.
لا يقع المطلع على أي من المخطوطات الدمشقية إلا ويعثر فيها على ذكر للمكتبة الظاهرية التي ساهم موقعها إلى حد كبير في تحديد أهميتها لزمن طويل. فهي تقع في حي الكلاسة القريب من الجامع الأموي وقلعة دمشق وسوق الحميدية، فضلاً عن الحمام الملاصق لها من جهتها الشمالية والذي يُعرف بحمام الملك الظاهر.
المؤرخ وخبير المخطوطات عدنان الجواهرجي التقته الميادين الثقافية حيث أجاب على بعض أسئلتنا عن المكتبة، فقال إنها "كانت في الأصل داراً للأمير أحمد بن الحسين العقيقي واشتهرت في العهد الفاطمي بنزول الأشراف العلويين فيها ما جعلها مرشحة لنزول العظماء والكبار فيها منهم نجم الدين أيوب ثم الملك العادل وأخوه صلاح الدين وربيعة خاتون أخت السلطان صلاح الدين".
لكن بعد أفول نجم الدولة الأيوبية يشير الجواهرجي إلى أن ملكية الدار "إنتقلت إلى الأمير فارس الدين أقطاي ليشتريها في ما بعد الملك الظاهر بيبرس، والذي يعود إليه الفضل الحقيقي في بناء الظاهرية حيث جعل منها تربة بناها سنة 676 هجرية دُفن فيها هو وابنه بركة ابن خاقان ومدرسة أُنشأها سنة 677 هجرية للأحناف والشافعية".
من هو الظاهر بيبرس؟
يقول الجواهرجي إن الملك الظاهر تركي الأصل أسره المغول وباعوه ليشتريه آخر ملوك الأيوبيين، ويستند في ذلك إلى بعض المراجع التاريخية التي تشير إلى أنه "تميز بالشجاعة والشهامة والفطنة والذكاء والعبقرية العسكرية"، لكنها "تعيب عليه قتله اثنين من الخلفاء ثم استيلاؤه على الحكم".
ويضيف المؤرخ السوري وخبير المخطوطات أن الظاهر عندما دخل إلى دمشق "فرض الضرائب وأعاد ترميم الجامع الأموي وبنى القصر الأبلق، كما أنشأ الشوارع والمدارس وبنى الأسوار في صفد وحَفر خندقاً حول قلعته". ويتابع: "كان من أعظم ملوك الدنيا فقد غلب التتار في معركة عين جَالُوت وحرر الساحل السوري من الصليبيين، كما أنه أسر ملك فرنسا لويس الخامس".
هناك حادثة عن الظاهر لا يذكرها التاريخ في كتبه إلا قليلاً، لكن الجواهرجي يخبرنا عنها قائلاً:
"عندما فرض الملك الظاهر الضرائب على دمشق، جاء إليه المُحدّث والفقيه الإمام النووي محرّر المذهب الشافعي وشيخ الشافعية. كان النووي رجلاً فقيراً يعيش في المدرسة النورية لنور الدين الزنكي آنذاك. فقال للظاهر: إرفع ضرائبك عن أهل الشام فإن أراضيها وقف للمسلمين ولا يجوز أن تقّيد بالضرائب الباهظة. رفض الملك الظاهر في البداية ما قاله النووي، فما كان من الإمام إلا أن هدده بقوله: ارفع وإلا أقمت عليك الفتنة (الثورة). حينها سأل الملك مستشاره القادم معه من مصر، "أيفعلها؟". فأجابه المستشار: "نعم، إن أهل الشام مع الإمام النووي". فقال الظاهر: "رفعتها". ثم بعد ذلك حَسُنت أعماله وخلقه".
معمار تحدى المحن والمصائب
تتميز المكتبة الظاهرية من الناحية المعمارية ببنائها الضخم الذي تحدى المحن والمصائب. فقد كوّنت مع المدرسة العادلية المقابلة لها وحدة عمرانية تأخذ بعين الناظر وتوقفه أمام عظمة التاريخ العمراني في دمشق.
أما مقبرة الملك الظاهر وابنه الملك السعيد داخل المكتبة الظاهرية فهي من أروع ما ترك المماليك خلفهم، إذ إنها مليئة بالزخارف الجدارية ابتداء من الرخام من الأسفل وانتهاء بالفسيفساء من الأعلى. كما ضمت حزاماً زخرفياً عريضاً احتوى على رسوم متتالية من أشجار وأغصان وأزهار. ويعد هذا الحزام من أهم اللوحات الجدارية في العالم.
كما احتوت المقبرة على قبة عالية ومحراب مؤلف من رخام ملون وفسيفساء أموي بناها المهندس ابن غانم واسمه موجود على باب المكتبة، وهو الذي بنى القصر الأبلق الذي أصبح اليوم التكية السليمانية.
عودة إلى الحياة
لقد شكلت المكتبة الظاهرية لعقود طويلة منارة للعلم في ظل العهد المملوكي إلى بداية العهد العثماني، حيث أُهملت وأصبحت بحاجة إلى ترميم لتتحول إلى مجرد مدرسة ابتدائية أزعج طلابها الصغار سكان الجوار.
لكن "الظاهرية" عادت إلى الحياة في أيام الملك فيصل الذي اعتمد في إعادة نهوضها على خير من يفهم بالمخطوطات وهو الشيخ الأمازيغي طاهر الجزائري وطالباه محمد أحمد دهمان وكرد علي. فقد أمضى الشيخ الجزائري حياته بين الكتب والمخطوطات وله نحو 20 كتاباً في الحديث الشريف، ما جعله متميزاً عن غيره هو انه كان يجيد اللغات القديمة كالسريانية والعبرانية والتركية والكردية والحبشية، لكنه في أواخر حياته بسبب فقره ومرضه وضعفه اضطر إلى بيع كتبه ومخطوطاته إلى المتحف البريطاني في لندن، وأشهرهم كتاب "يوميات الحلاق البُديري"، وهو كتاب باللغة العامية وشاهد عيان على ما جرى زمن أسعد باشا العظم.
أبرز المكتبات التي كونت المكتبة الظاهرية
ضمت المكتبة في محراب المقبرة الظاهرية نحو 861 مخطوطاً لكن نتيجة الإهمال والسرقة اُقتُرِح على ابن عابدين أن يجمع هذه المخطوطات في مكتبة مثل مكتبة إسطنبول.
وفِي زمن مدحت باشا تحولت إلى مكتبة عامّة احتوت على 11902 مخطوط وكتاب، ومنها مخطوطات المكتبة العمرية التي أنشأها المقدسي ومكتبة باشا العظم والمكتبة السليمانية، ومكتبة المُلا عثمان الكردي والمرادية والسميساطية والياغوشية ومكتبة الخياطين ومكتبة الأوقاف.
المخطوطات تتنوع بين العلم والأدب والتاريخ والدين والجغرافيا للعديد من المؤلفين، منها ابن شداد وابن عساكر وعبد الغني النابلسي وابن الهيثم.
لفتت المكتبة الظاهرية، كما العديد من مكتبات دمشق والقاهرة، نظر المستشرقين منذ أكثر من قرن، لكنها عانت من فقدان جزء من مخطوطاتها النادرة، بعد تعرضها للسرقة في فترة الانتداب الفرنسي، أو إتلاف مخطوطات أو ضياع بعضها نتيجة الإهمال.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]