هكذا تسللت ميثولوجيا لافكرافت إلى اللاوعي الجمعي

صنع لافكرافت قاعدة عريضة يدعم بها عالمه، فترك العديد من التفاصيل الغامضة، والقطع الناقصة في أعماله، والتي ملأها بعده الروائيون والموسيقيون وصانعو الألعاب لتتفرّع الحكايات أكثر وأكثر وتكتسب المزيد من التفاصيل ويظهر منها العديد من الأطوار والنسخ، تماماً كما حدث في الخرافات والأساطير قديماً.

  • هكذا تسللت ميثولوجيا لافكرافت إلى اللاوعي الجمعي
    هوارد فيليبس لاڨكرافت

يُعدّ هوارد فيليبس لاڨكرافت من الكُتّاب القلائل الذين يتركون وراءهم تأثيراً كبيراً ليس في الأدب وحده، بل على الثقافة البشرية بشكلٍ عام، فيمكن أن ترى إشارات وتلميحات واقتباسات إلى عناصر عدّة من أعمال لاڨكرافت في العديد من أشكال الفن كالروايات والمسرحيات والأغاني والسينما وألعاب الكومبيوتر، وأصبحت كلمات من كثولو وآرخام ونيكرونوميكون معروفة لدى الكثير من الناس حتى هؤلاء الذين لم يقرأوا أعمال لافكرافت.

ما يجعل الأمر أكثر إثارة للحيرة هو أن لافكرافت عاش حياته بلا أية شهرة، ولم تتعد قراءة أعماله دائرة أصدقائه ومعارفه وعدد قليل من متابعي المجلات التي كان ينشر فيها، بل أنه نفسه كان يتنبّأ باندثار أعماله بعد موته، فما سرّ تلك الشعبية الطاغية لأعمال لافكرافت؟

العديد من الكتّاب وخصوصاً في الفانتازيا يسعون إلى خلق العوالم والميثولوجيا الخاصة بهم، وكثيراً ما تتم الإشارة إلى أعمال بعض الكُتّاب الفانتازية بأنها ميثولوجيا، مثل ميثولوجيا تولكين في السيلماريليون، أو ميثولوجيا سي. اس. لويس في نارنيا، ولكن هذه الأعمال لا تصنّف كميثولوجيا حقيقية، بل يظل تصنيفها رواية، وعمل إبداعي لكاتب استطاع أن يخلق عالماً بكل تفاصيله، ولكنهم لم يصلوا حقاً إلى مرحلة الميثولوجيا، لأنهم يفتقدون إلى العنصر الهام الموجود في ميثولوجيا الشعوب المنتشرة على نطاق واسع، وهي دورة المحاكاة.

المقصود بدورة المحاكاة هي بداية القصة بفكرة صغيرة، يتم تداولها وتحريفها وتضخميها مراراً وتكراراً، لتعكس شيئاً جديداً في كل مرة متعلق براوي تلك القصة، فكل الحكايات والأساطير القديمة عن الآلهة والوحوش والأبطال هي مجرّد انعكاس لأفكار البشر ومشاعرهم وطموحاتهم ومخاوفهم.

بشكلٍ ما استطاع لافكرافت أن يحقّق ذلك لسبب بسيط وهو أنه لم يكن يكترث ببناء عالم، بل جاء بسبب عادة لديه أثناء الكتابة وهي أن يشير إلى نفس العناصر مراراً في أعمال مختلفة، وقد يكون لإحداها دور صغير في إحدى القصص، ثم يصبح لها دور أكبر في أعمال أخرى. فمدينة آرخام على سبيل المثال ظهرت للمرة الأولى في قصة "هربرت ويست المعيد إلى الحياة" ثم ظهرت بعدها بسنوات في قصة "الاحتفال" ثم أصبحت نقطة مركزية للأحداث الخارقة للمألوف في كل أعماله. وفي قصته الشهيرة "الظل فوق إنزماوث" يكون لداجون أحد الكيانات القديمة دور كبير، ولكن العديد من القرّاء لا يعرفون أنه قد ظهر قبلها بأربعة عشر عاماً في قصة قصيرة للغاية بعنوان "داجون".

 

شخصية غريبة الأطوار

  • هكذا تسللت ميثولوجيا لافكرافت إلى اللاوعي الجمعي
    شخصية غريبة الأطوار

النقطة المهمة الأخرى هي شخصية لافكرافت غريبة الأطوار، فبسبب المعاناة التي مر بها في طفولته أصبح شخصاً منطوياً وأغلب تواصله مع المحيطين به كان عبر الخطابات، حتى ترك وراءه عشرات الآلاف منها. في تلك الخطابات كان يشجع أصدقاءه والكتاب المبتدئين على مشاركته عالمه، والبناء على أساس أساطيره، وأحد هؤلاء المشاركين هو كلارك أشتون الذي قدّم مخلوقاً يشبهه يُدعى "تساثوجوا" تم التلميح له لاحقاً في بعض أعمال لافكرافت، مثل "الهامس في الظلام" و"الرعب في المتحف" و"على جبل الجنون".

كتب فرانك لونج في المقدمة التي لم تُنشر لقصته "آكلو الفضاء" اقتباساً غير موثوق المصدر لكتاب "النيكرونوميكون" من المفترض أن مَن ترجمه هو جون دي العالم الحقيقي الشهير الذي لعب دوراً كمستشارٍ للملكة إليزابيث، لاحقاً ضم لافكرافت هذه الترجمة إلى عالمه مشيراً إلى إسم جون دي كمترجم للعمل في بعض خطاباته عن تاريخ النيكرونوميكون.

بهذه الطريقة صنع لافكرافت قاعدة عريضة يدعم بها عالمه، فترك العديد من التفاصيل الغامضة، والقطع الناقصة في أعماله، والتي ملأها بعده الروائيون والموسيقيون وصانعو الألعاب لتتفرّع الحكايات أكثر وأكثر وتكتسب المزيد من التفاصيل ويظهر منها العديد من الأطوار والنسخ، تماماً كما حدث في الخرافات والأساطير قديماً.

وبينما تعكس الأساطير الشعبية مخاوف ومشاعر الشعوب، فقد عكست أساطير لافكرافت أفكاره ومشاعره ومخاوفه الخاصة. فلسفة لافكرافت حول العالم والحياة البشرية هي فلسفية عدمية. يرى عبثية الحياة أمام هذا الكون العشوائي الأعمى، ونرى ذلك متجسّداً في الدور الضئيل الذي يلعبه البشر في أعماله أمام الكيانات الهائلة المخيفة التي لا تكترث بالبشر، مثل أزاثوث الإله الأعمى الذي لا يفصله عن الكون المألوف سوى غشاء رقيق، إنه قوّة فوضوية مخيفة قادرة على تدمير الكون كله، ولا يستطيع أحد من الكيانات القديمة الوقوف أمامه.

كما أن الكثير من أشكال الحياة انبثقت بالصدفة من الآلهة العمياء شَب ـ نيجوراث التي أنجبت كيانات قديمة مثل كثولو وتساثوجوا ونج ويب.

في الميثولوجيا يكون لآلهة الخصوبة دور كبير ويتم الإشارة للإنجاب باعتباره طقساً مقدساً، أما لافكرافت فكان يعبر عن سخطه على الحياة وربما احتقاره لها. حتى كثولو نفسه يمثل تلك العدمية والسخط، فصحوته الأخيرة ستؤدّي إلى فناء البشر ودمار كل ما بنوه على تلك الأرض، لا شيء سيبقى، الكل سيفنى. وقد صنّفه الناقد الإنكليزي كولن ولسن بأنه من الكتّاب الرافضين للواقع المعاش، وقال في كتابه المعقول واللامعقول في الأدب الحديث أن لافكرافت يهرب من الواقع بطريقة هستيرية ساخطة، تبتعد كثيراً عن الإيجابية والمعقول.

 

خطورة المعرفة

  • هكذا تسللت ميثولوجيا لافكرافت إلى اللاوعي الجمعي
    خطورة المعرفة

نرى أيضاً فلسفته حول خطورة المعرفة وعدم قدرة البشر على تحمّل الحقيقة في الكثير من أعماله التي يصاب أبطالها بالجنون لأنهم عرفوا أكثر من اللازم، ويتجسّد ذلك في يوج ـ سوثوث الذي يعرف الماضي والحاضر والمستقبل، ويهبّ المعرفة لمن يسعى وراءها ويطلبها، ودوماً ما تؤدي تلك المعرفة إلى الجنون، ولعلّ ذلك يعكس شغف لافكرافت دوماً بالعلم وما تبع ذلك من فشل أكاديمي.

أشرنا أيضاً إلى شخصية لافكرافت المنطوية غريبة الأطوار، ولكنها لا تقف عند هذا الحد، فلافكرافت كان عنصرياً ولديه خوف من الغرباء، وأي شيء خارج نطاق عالمه المألوف في نيو إنجلاند، وأعماله الأولى خصيصاً مليئة بالإشارات العنصرية حيث يضع الرجل الأبيض في مكانة أعلى من البشر الآخرين، ونرى إسقاط ذلك في بعض الكيانات القديمة في أعماله مثل "نيرلاثوتب" المخادع المتحوّل، الوحيد الذي يستطيع التحرّك بحرية عبر الغشاء الذي يفصل بين العالم المألوف وعالم الآلهة الخارجية، إنه يرمز إلى تسلّل الغرباء إلى عالمنا المألوف، ونرى أيضاً جنس قاطني الأعماق الذين يتجانسون مع البشر في "الظل فوق إيزنماوث" الذين يحملون العديد من الإشارات والدلائل على خوف لافكرافت من الآخر، والجدير بالذكر أن حدّة تلك العنصرية قد خفّت كثيراً في أعماله اللاحقة، ويصفه بعض النقّاد بأنه ضحية فترة عنصرية في بلدة عنصرية، وبالتأكيد فإن طبيعته المنطوية قد ساهمت في تعزيز ذلك الخوف والعنصرية.

يمكن رؤية تلك الإسقاطات في كل أعماله، فهو لم يستخدم تلك العناصر مراراً وتكراراً لأنه كان يرغب في بناء عالم، بل لأن تلك العناصر هي إسقاطات لمشاعره ومخاوفه، وهذا هو سرّ شعبية تلك الأعمال، فكما استخدم القدماء الأساطير والآلهة مثل زيوس أو ثور أو إيزيس أو عشتار كتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم ومخاوفهم، كذلك نستخدم نحن أساطير لافكرافت للتعبير عن سخطنا على الحياة أو خوفنا من الآخر أو إحساسنا بضآلة الجنس البشري أمام قوى أخرى مخيفة مجهولة تقبع لنا في الظلام.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]