التبراع.. نساء يتغزَّلن بالرجال

"حبكَ أيها القديس، حيّر نزاراً وقتل بلقيس".. نساء يتغزَّلن بالرجال، أين؟ وكيف؟

  • التبراع.. نساء يتغزَّلن بالرجال
    التبراع.. نساء يتغزَّلن بالرجال

في الثقافة الصحراوية في المغرب، تأخذ المرأة مكانة مُتقدِّمة قياساً إلى صورة المرأة في العديد من المجتمعات العربية. إنها سيِّدة تحظى بالتقدير، وتمتلك روح المُبادرة والتشارُكية في تدبير الحياة في المجتمع الصحراوي، بل إنها تأخذ في الكثير من الحالات أدوار القيادة. ثمَّة سلطة تمتلكها المرأة الصحراوية في المجالات التي تتحرَّك فيها؛ في البيت والعائلة والقبيلة والمجتمع. 

ثمَّة في المُقابل عادات وتقاليد في الحياة الصحرواية، مُتوارَثة عن الأسلاف، لكنّها لا تحاصِر المرأة بالضرورة، ولا تحطّ من قَدْرِها، ذلك أن حياة الانفتاح لدى النساء في الصحراء ليست مُسْتَحْدَثة، بل لها جذور في التاريخ.

لقد تفاجأ الكثير من المُستكشفين وروَّاد الرحلات، في زمنٍ سابق، بما تتمتَّع به المرأة في هذه الأوساط من حريةٍ ووجاهة، وعدم الاختباء وراء الرجل أو اللجوء إلى سُلطته لدعم ضعفها. هذا الضعف غير موجود، كما يبدو، في الثقافة الصحراوية. إننا نجد أنفسنا في الغالب أمام نساء يتمتَّعن بقوَّة الشخصية وبِقَدْرٍ هائل من الاستقلالية في اتخاذ القرار. 

وإذا كانت للمرأة الصحراوية سلطةٌ اجتماعية، فإن لهذه السلطة بالضرورة ترجمتَها الثقافية. يرتبط الأمر هنا بنوعٍ من "الإقدام الأدبي" نتلمَّسه في فن "التبراع"، بما هو لون شعري سائد في الثقافة الصحراوية على نحوٍ فريد، وخصوصاً لدى قبائل "البيضان"، حيث تسود الثقافة الحسّانية.

وإذا كان تاريخ الشعر العربي حافِلاً بالنصوص والقصائد التي يتغزَّل فيها الرجال بالنساء، ففي هذا النوع من الكتابة الشعرية، ياخذ كل طرفٍ مكان الآخر، ذلك أن المرأة هي التي تتغزَّل بالرجل. "التبراع" امتداد للغزل والنسيب الذي ظهر، كغرضٍ شعري، مع الشعر الجاهلي، وعرف أوجه في العصر الأموي.

عبر مختلف العصور، ظلّ شاعر الغزل هو الرجل، غير أننا، في "التبراع"، نجد أنفسنا أمام نصوص شعرية تُبدعها المرأة الصحراوية، ويصير فيها الرجل موضوعاً للغزل. يُذكِّرنا هذا النوع من الكتابة بالشذرية بالرُباعات الفاسيات في المغرب، وبأدب "اللانداي" عن النساء البشتونيات، وعلى نحو ما بأشعار "الكَيشا" في الثقافة اليابانية.

تفرَّق الباحثون في الأدب الصحراوي بخصوص أصل المفهوم، فمنهم مَن رأى فيه امتداداً لكلمة "التّبرّع"، حيث تتبرَّع المرأة الشاعر بنصوص غزلية للرجل الذي تحبه، وهناك مَن رأى في الكلمة تحويراً لمفهوم "الرُباعيات" في الشعر العربي، وثمَّة مَن رأى أن "التبراع" مُشتقّ من الفعل بَرَعَ، إذ يتعلَّق الأمر بالبراعة في كتابة قصائد غزلية.

تحاول شاعرة "التبراع"، عن وعي أو عن غير وعي، أن تثبت أنها تستطيع مُجاراة الرجل في تأليف أشعار الغزل، بل إنها قادرة أحياناً على التفوّق عليه. تقول إحدى الشاعرات المُعاصرات: "حبّك يا القديس/ حيّر نزار وكَتل بلقيس" (حبكَ أيها القديس/ حيّر نزاراً وقتل بلقيس). تحيل هذه التبريعة إلى مرجعية ثقافية، فهي تستحضر نزار قباني. وإذا كانت مُغازَلة محبوبها ستستعصي على أشهر شاعر غزل في عالمنا المُعاصر، فإن هذا الغزل في المقابل سيلين بين يديها.

العالية ماء العينين تتعقّب شاعرات التبراع

  • التبراع.. نساء يتغزَّلن بالرجال
    العالية ماء العينين
  • التبراع.. نساء يتغزَّلن بالرجال
    التبراع.. نساء يتغزَّلن بالرجال

في كتابها اللافت "التبراع. نساء على أجنحة الشّعر"، تورِد د. العالية ماء العينين تعريفاً لأحمد بابا مسكه، باعتباره أول مَن أفرد بحثاً عن هذا الفن: "التبريعة قصيدة قصيرة من شطرين بالرويّ نفسه. كانت الفتيات العاشقات تعبِّر بها عن الأحاسيس المصادرة اجتماعياً، عندما يكنّ منفردات بعيداً من آذان الفضوليين. إنهن يحمّلنها بوحهنّ الساذج وغير المدروس والبعيد من فكرة النشر والإعلان عنه، وتناقلته الألسن في إطار من السرّية".

لقد كان "التبراع" استجابة لنداءات داخلية، ولم يكن معنياً على الإطلاق بنطاقات التداول والرغبة في توسيع قاعدة التلقّي. إنه "بَوْح" أو "مُكاشَفة" لا تتوخّى منه الشاعرة أن يصير مشاعاً، بل أن يبقى حصراً بين جليساتها، وربما لم تكن تفكِّر في أن تصل التبريعة إلى موضوعها، أي الرجل المُتغزَّل به.

"التبراع" إذاً هو تأليف نصوص شذرية وشفاهية يضبطها إيقاع وقافية، قد تنتشر من فمٍّ إلى أذن، في نوعٍ من التكتّم على مؤلّفتها. وقد ترجع هذه السرّية التي تحيط مؤلِّفات "التبراع" إلى نوعٍ من الكبرياء النسائي، أو إلى طبيعة الحياة المُحافِظة لدى القبيلة، على الرغم من وَجاهة المرأة وموقعها الاجتماعي. 

تورِد ماء العينين تعريفات أخرى، من بينها إضاءة للباحث أحمد وْلِد حبيب الله، يُثير فيها مسألة بالغة الأهمية، إذ يرى أن "التبراع" هو "تعبير عن المشاعر العميقة، والمحظورة أحياناً". وهنا يمكن أن نلمس روح التحدّي التي تتَّسم بها المرأة الصحراوية، فسواء سمح لها مجتمعها بأن تتغزَّل بالرجل أم لم يسمح، لن تنتظر هي في المقابل هذا الجواز الاجتماعي كي تُبْدِع تبريعاتها.

تفرد ماء العينين حيِّزاً مهماً في كتابها لنماذج من شعر "التبراع"، إذ قامت بدراسة وتحليل حوالى 200 نموذج، مُتعقّبةً الدلالات ومُسلِّطة الضوء على الأبعاد الجمالية والبلاغية فيها، مُقترحةً ترجمة مُبَسَّطة من الحسانية إلى العربية الفصحى، وهي تنطلق من نصوص تحمل فكرة الإصابة بداء الحب، كما تعبِّر عنه مثلاً هذه التبريعة: "وانَ مسقومة/ من حدْ أُلانِ مفهومة" (أنا عاشقة لأحدهم/ ولا أحد يفهم ما بي). هذا ما تُعبِّر عنه وتؤجّجه تبريعة أخرى: "من متن حزيمُ/ نفتح نستنشق نسيمُ" (من شدّة حبّه/ أستنشق رائحته في كل مكان).

تنتقل الباحثة إلى نصوص تصف الخصائص الشكلية للمحبوب، كما نجد في هذا النموذج: "عندو تبسيمْ/ تُحيي لعظام الرميمْ" (ابتسامته تُحيي العظام وهي رميم)، أو كما نجد في نموذج آخر: "اعليه كمامة/ أحرم من مال اليتامى" (له شفتان/ محرمة أكثر من أكل مال اليتيم). يتكرَّر وصف مكامِن الجَمال في جسد الرجل في الكثير من نصوص التبراع. تقول إحدى الشاعرات: "شفت أنا شامات/ الموت عليهم والحياة" (رأيتُ شامات/ أحيا من أجلها وأموت).

ثمَّة نصوص تبدو فيها الجُرأة الاجتماعية واضحة، إذ تتمنَّى العاشقة لو أن الأقدار أبدلتها الرجل الذي ترتبط به (الزوج في الغالب) بالرجل الذي تحبّه: "ألا يتخيلِّ/ عن لاهِ يتوك ليحجلِّ" (أطلب من الله أن يكون الشخص الذي أحبّه وأريده/ مكان هذا الشخص الموجود إلى جانبي). ثمة أيضاً إشارات الرغبة كما في هذه الشذرة: "الجسم احمومة/ والكَلب خبر فيه انتومَ" (الجسد مشتعل/ أما القلب فأنتم أدرى به).

أفردت الكاتبة أيضاً حيِّزاً لعرض الخصائص الشكلية والإيقاعية لنصوص "التبراع"، مُتوقِّفة عند الإيقاع والحقول اللغوية والصوَر الشعرية والأوزان، وخلصت أيضاً إلى أن "التبراع" لم يكن محصوراً في الغزل فقط، بل عرف امتداداً ذا طابع اجتماعي وديني، وأحياناً سياسي.

إن ما يحتاجه فن "التبراع" اليوم هو، في الأساس، جمع النصوص. فشساعة الصحراء تفرض بالضرورة شساعة تعبيراتها الشفهيّة، وبالتالي احتمال وجود نصوص شفاهية عديدة خلَّفتها نساء التبراع، المجهولات في الغالب، وراء الكُثبان، وفي الواحات، وتحت الخيام.