محمّد رشيد رضا: إصلاحي من دارة المشايخ في القلمون
من دارته في شمال لبنان انطلق في دعوته الإصلاحية حتى ذاع صيته في العالم الإسلامي.. تعالوا لنتعرف إلى العلاَّمة محمّد رشيد رضا.
من دارته في القلمون شمال لبنان، التي عُرِفَت بــ "دار المشايخ"، انطلق العلاَّمة محمّد رشيد رضا كواحدٍ من روَّاد الفكر الإسلامي المُتنوِّر الذين بزغوا في أواخر القرن التاسع عشر، مُطلقاً دعوة إصلاحية تستشرف تطوّرات العصر المقبلة على المستويات الفكرية والعقائدية والثقافية والسياسية والمصيرية، بالتفاعُل مع أسلافٍ له كجمال الدين الأفغاني والشيخ محمّد عبده وآخرين.
ولِدَ رضا سنة 1865 في "دار المشايخ"، وأسَّس اتجاهه في بلدته، قبل هجرته إلى مصر التي كانت موئل الفارّين من الحُكم العثماني في فترة حُكم "جمعية الاتحاد والترقّي".
دار رضا مبني من حجرٍ مقصوبٍ باتقان، مع كورنيشٍ يحوط السقف، ونوافذ مُتناسقة ومُقَنْطَرة، يوحي ببيتِ مجدٍ سابق. لكن الظاهر من المبنى هو الطبقة العلوية منه، والطبقة الأرضية، تقع تحت الطريق عبر طريق فرعي. وأفضل إشارة إلى موقع الدار هي المئذنة المُسْتَحْدَثة الشامِخة التي تعلو مسجداً لصيقاً بالدار.
دار ضيافة
يعتزّ رضا ببيته، ويقول عنه: "كان بيتنا بيت كرم وضيافة، يقبل الضيوف من جميع المِلَل، ويؤوي السبيل من جميع الأقطار، وعهدي بأكبر علماء طرابلس، ووجهائها، يغشون دارنا أيام الصيف، ويقيمون فيها أياماً للتمتّع بهوائها اللطيف، ومياه ينابيعها النقيّة، وأصناف الطعام الفاخِرة عندنا".
المسجد والدار بناهما جدّ رضا، وكانت إقامته فيها بين نشأته وشبابه، قبل أن ينتقل إلى البيت الذي شاده والده على بُعد زهاء 150 متراً، لكن رضا ظلّ يقصد مسقط رأسه، مُستخدماً غرفتين على سطح المسجد لممارسة حياته الخاصة المُتركّزة على المطالعة، والكتابة، واستقبال الأصدقاء.
لكل من الغرفتين فتحة في سقفه تفضيان إلى داخل المسجد، ويتذكّر أحد أنسباء رضا، مصطفى الصبّاغ، من وَرَثة أهله، وهو يقطن في الطبقة السفلية من الدار، أن الفتحتين أمّنتا النزول الداخلي من السطح إلى المسجد عبر سلَّمين صغيرين اتصلا في فراغ المسجد بسلَّمٍ طويلٍ تصل أرضّيته، وقد نزع السلَّم وبقيت الفتحتان شاهدتين على الرواية.
الصبّاغ يتذكَّر أيضاً أن مياه البحر كانت تصطفق على درجات المسجد، وتبلّل المُصلّين عند اشتداد الرياح، لكن عمليات ردم أبعدت الشاطىء عن المسجد.
في الطبقة العليا من الدار، وهو الجزء الظاهر على الطريق العام، كان بيت النساء. تطلّ شرفتها على باحتها حيث كان يجري تعليم العلوم الدينية والمدنية.
ويُفيد الصبّاغ أن النساء كنّ يطلّلن على الدار من شرفة المنزل، من خلال فتحات فخّار مغروزة في شرفة قرميد أزيلت مع الوقت، وكنّ يتلقّين العلوم من موقعهن بالتشارُك مع الذكور من دون الاختلاط بهم.
تتوزَّع الطبقة العليا على عدّة غرف مقفلة حول شرفة واسعة، وفيها عتبات بحجارةٍ مُزركشةٍ، وفتحات تهوئة بأشكال فنية زُخرفية، وحجارة البناء كلها من الحجر المصقول.
تعلو هذه الطبقة لوحة حجر محفور عليها: “رابطة آل البيت"، يذكر الصبَّاغ إنها إعلان العائلة انتماءها إلى أهل البيت، وإلى بني هاشم، سلالة الرسول.
نَسَب لآل البيت
يُعْرَف عن رضا إنه "ينحدر من نسل الحسين بن علي بن أبي طالب"، بحسب كتاب "رشيد رضا تاريخ وسيرة" للدكتور أنيس الأبيض، الذي يُضيف أن رضا يُشدِّد في كتاباته التي نُشِرَت في جريدته "المنار" أن عائلته "تنتسب إلى بيت الرسول عليه الصلاة والسلام وآله، ويقول عن الإمام علي "جدّنا المرتضى عليه السلام"، كذلك يتحدَّث عن "جدّنا الحسين عليه السلام". وكثيراً ما ذيَّل مقدَّمات الكتب، والمقالات بإسمه "محمّد رشيد رضا الحسيني". كما كان يقول: "ويؤثر عن جدّنا الإمام جعفر الصادق عليه الرضوان"، أو "يروى عن جدّنا الإمام جعفر الصادق عليه السلام".
أما منزل الوالد فسكنه أشقاء وشقيقات لرضا، ويسكنه حالياً إبن شقيقته علي عاصم، محامٍ مُخَضْرَم مُتخرِّج من القاهرة أوائل خمسينات القرن الماضي. يتذكَّر عاصم أن خاله محمّد رشيد رضا سافر إلى مصر سنة 1898، وأسَّس أسبوعية "المنار"، وكان يحمل له الهدايا وحلوى "البريوش" كلما قَدِمَ من مصر بين فترة وفترة أوائل ثلاثينات القرن الماضي، كما يتذكَّر وفاة خاله (1935) عندما كان هو لا يزال في الرابعة من عُمره.
منزل الوالد من طبقةٍ واحدةٍ، أُضيفت إلى جزءٍ منه طبقة ثانية في وقتٍ لاحق. وهو من الحجارة، وخشب فتحاته مشغول بإتقان، وله طاقات مُزَخْرَفة، وعتبات محفورة على شكل زهور أحياناً، أو تقاطُعات أرابسيك أحياناً أخرى. وتُغطّى أبوابه بخشب محفور، ومنقوش في آن.
نوافذه تطلّ على البحر الذي كان تحتها مباشرة، وسقوفها مُغطَّاة بالخشب المشغول، والمحفور بطُرُقٍ جميلة، ومختلفة في كل شباك. والفتحات في داخله تحفّها براويز من الخشب المُزَرْكَش بحِرَفية. إنه تشكيل لمنزلٍ مرجعي، وليس لمنزلٍ عادي.
يقول عاصم، إن "المكان كان مقصد المرجعيات السياسية والقيادية في البلد، يوم كانت عمَّته الكسيحة عفاف تُقيم فيه، فيأتي الزوَّار من كل حَدْبٍ وصوب لزيارتها، والاستزادة من حكمتها".
وفي قاعة المنزل الرئيسية مكتبة تضمّ أعمال ومؤلَّفات رضا، وكل نسخ "المنار" في إطار مجلّد. يقول عاصم عنها إنها مكتبة والده، أما مكتبة الشيخ رضا فكانت في مصر، وبيعت بعد وفاته.
منهج محمّد رشيد رضا
بعد بلوغه مرحلة من النُضج، هاجر رضا إلى مصر "لِما فيها من حرية العمل، واللسان، والقلم"، كما قال مُضيفاً: "وكان من أعظم ما أرجوه في مصر، الوقوف على ما استفاد الشيخ محمّد عبده .. من خطّة إصلاح من صحبة جمال الدين الأفغاني، وأن أعمل معه، وبإرشاده في هذا الجو".
كانت "المنار" من أكبر همومه وهدفها "نشر الإصلاحات الاجتماعية، والدينية، والاقتصادية.. ومواصلة السير على نهج العروة الوثقى"، بحسب أبيض.
ومما قاله رضا فيها: "أيها الشرقي المُسْتَغْرِق في منامه المُبْتَهِج بلذائذ أحلامه، تجاوزت بنومك حدّ الراحة، تنبَّه من رُقادك.. وانظر إلى هذا العالم الجديد، ودخول الإنسان في طور آخر".
وعند بروز النزعة الطورانية في تركيا، حذَّر رضا من التفرقة بين العنصرين العربي والتركي، وركَّز على ضرورة الاتحاد بين مختلف مكوِّنات الامبراطورية العثمانية، وانتقد محاولاتٍ تركية استهدفت اللغة العربية، وكانت دعوته إصلاحية، وحثّ على وجوب الجَمْع بين هداية الدين والعلوم العصرية مع عدم التنافي بين الإسلام والعلوم.
وكان رضا من أوائل مَن نبّهوا من خطورة قيام "إسرائيل"، وانتقد خطوات "جمعية الاتحاد والترقّي" إضعاف اللغة العربية، وتتريك العرب وإضعافهم.
وأدرك أبعاد الحركة الصهيونية لاحتلال فلسطين رابطاً بين أهداف "جمعية الاتحاد والترقّي" والحركة الماسونية التي قرَّرت إبعاد السلطان عبد الحميد الثاني عن السلطنة، ويدها الطولى في مختلف المجالات، على ما ورد في كتاب الأبيض.