أحمد همداني.. "محارب موسيقي" في الصفوف الأمامية!
90 بالمئة من طلاّبه ينتمون إلى عائلات مُتديّنة.. كيف يعمل أحمد همداني على تشكيل "جبهة" تجمع بين الثقافة الموسيقية المعاصرة وبين الرسالة الإنسانية الأصيلة؟
في تعريفه غير التقليدي بنفسه يرى المؤلِّف والباحِث الموسيقي أحمد همداني أنّه "محارِبٌ" في الصفوف الأمامية في المعركة الثقافية حامِلاً الفنّ بمضامينه الحقَّة وبرسالاته الإنسانية الأصيلة. يُدرِّب همداني معه أكبر عدد ممكن من "الجنود" الثقافيين والفنيين الموسيقيين على هذه "الجبهة"، ولطالما أطلق عليهم توصيف "الجيش الأطواري" إنطلاقاً من أنّ مركزهم الموسيقيّ الذي أسَّسه ويُديره يحمل إسم "مركز أطوار للموسيقى".
يعلم همداني جيّداً أنّه في خضمِّ معركةٍ ثقافيةٍ وجماليةٍ فنيةٍ موسيقيةٍ على المستوى الداخلي للفرد وكذلك على صعيد أدائه الخارجي، كما يقول في حديثه مع الميادين الثقافية، موضِحاً أنهم يسيرون بين ألغامٍ فكرية وثقافية مختلفة، ويُصرِّون على البَذْل في هذه الجبهة حتى النهاية؛ حتى الشهادة!
إنهم يسعون دائماً إلى الحصول على كل أنواع الصمود ومقوِّماته، وعلى الأسلحة الفنية والثقافية المناسبة، عِلماً بأنّه ما زال أمامهم الكثير وما زالت المعركة في أوّلها هنا وهم يتمنّون "إنجاز فتوحات في المجال هذا على المستوى الثقافي والإنساني من خلال الفن الجميل"، على حدّ تعبير همداني.
في صفحة "أطوار للتثقيف والتطوير الموسيقي" على موقع "فيسبوك" تلفت انتباه المُتلقّي والمُتَصَفِّح تأديتهم حديثاً لنشيد "جايي مع الشعب المسكين" للفنَّان زياد الرحباني. كذلك تُثير انتباه المُتابع تأديتهم لمُقتطفٍ من "بحيرة البجع" لتشايكوفسكي في إحدى إحتفاليات "مركز أطوار" منذ سنوات.
ثمة رسالة موسيقية جامِعة بين النشيد الثوري اللبناني المُنْسلّ من وجع الناس والمجبول بصرخاتهم والتي يتجسَّد ويتجلَّى معناها راهناً في ظلّ واقعٍ مُهترىء ومُتأزِّم، وبين الموسيقى الكلاسيكية بمعناها الواسع، حيث استحضروا عملَ الرومنطيقيّ الروسي الاصطفائي تشايكوفسكي الذي ألَّف هذا الباليه Ballet الشهير.
عن الموسيقى بوصفها تعبيراً إبداعياً عميقاً يُخاطب الإنسانية جمعاء ارتباطاً بمشروعهم، يقول همداني إن: "الموسيقى أحد أهمّ الفنون في تاريخ التجربة البشرية لأنها مُرتبطة بمساحةٍ جماليةٍ راقيةٍ وأصيلةٍ في الفطرة الإنسانية وهي مملكة السماع، وهذا معيار يجعلنا نعرف قيمة العمل من خلال مُطابقته وتماهيه مع حقيقة الإنسان وداخله ونفْسه"، ويضيف: "كلَّما كانت الموسيقى تُعبِّر عن الإنسان وعن إنسانيّته بكل ما يختلجها من شؤونٍ وقضايا واهتماماتٍ حقّانيّة كان العمل الموسيقي أصيلاً ويُخلَّد... وهنا تأتي المواضيع التي يُعالجها الفن وتتَّسع باتّساع عنوان الإنسانية وقِيَمِها وفضائلها، سواء بالتعبير عن الجمال أو في ما يتعلََّق بالقضايا التي تؤمِن بها الفطرة الإنسانية وحقيقتها عن العدل والحقّ ورفض الظُلم والحبّ والإيثار والدفاع عن الوطن ورفض الذلّ والاحتلال".
لا يتصوَّر همداني أن يكون للعمل الفني أو الموسيقى أيّة حدود طالما أنها تعكس حقيقة الإنسان وجماليّة الفطرة الإنسانية التي ترفض كلّ ما هو شرّ وباطل وكل ما هو من الرذائل، سواء أكان عَمُودياً (في التاريخ) أو أفقياً (في الجغرافيا).
إنطلاقاً من هذه الرؤية لم تكن ثمَّة حدود البتَّة لأعماله التي قدَّمها في "مركز أطوار للموسيقى" وكانت تُلامِس كلّ قضايا الإنسان في كلّ مكانٍ وزمان، لا سيّما عندما بدأت جائِحة "كورونا" وضربت بعض البلاد بشكلٍ مأساويّ في بدايتها مثل إيطاليا وإيران.
لقد وجَّهوا في المركز أعمالاً موسيقية تضامنية لهذين الشعبين وكان أثرها عميقاً عندهما، ما تبدَّى في دخولهما صفحاتهم وشكرهم بلغتَيْهم وكانت إلتفاتة نادرة في هذا الزمن حيث تتضاءل القِيَم.
"اختتمنا بنشيد "جايي مع الشعب المسكين" الموجَّه إلى الشعب اللبناني والوطن؛ لهذا الشعب الجريح مع تمسّكه بكرامته وشرفه"، كما يُعبِّر همداني بصراحةٍ ومُستكملاً يقول: "لم نؤدِّ يوماً عملاً موسيقياً في الفراغ بل كان كلّ عملٍ مُقترناً برسالةٍ إنسانيةٍ غير محدودةِ الزمان ولا مصبوغة بصبغةٍ ضمن جغرافيا مُحدَّدة أو تصنيفات مُحدَّدة للناس".
يتحدَّث همداني مع الميادين الثقافية عن الجهد والإنجاز اللذين تحقّقا على مستوى تعزيز مناخ الثقافة الموسيقية الصحيحة في مجتمعنا وبيئتنا، ما تدثَّر بأشكالٍ عدَّة، أهمّها المناهج الموسيقية التربوية التي ألَّفوها في "مركز أطوار للموسيقى".
هذه المناهج المدرسية نالت موافقة وزارة التربية في لبنان واعتُمِدَت في أكثر من 25 مدرسة وهي في جوهرها تحمل رؤيتهم الثقافية والفلسفية الإنسانية الموسيقية.
ويُضيف همداني: "على مستوى الأداء الخارجي طوَّرْنا العديد من الأساليب والمهارات الموسيقية لدى أبناء هذه البيئة من خلال جهودٍ كبيرةٍ ودوراتٍ وورَش العمل داخل المركز وفي المدارس والمؤسَّسات ذات الصِلة إعلامياً، وترنيمياً، وموسيقياً كشفياً، وسواها... تواجدنا فيها كلّها وفي السياق عينه كانت لنا خطط مدروسة وجهودٌ حثيثة وصولاً إلى تصنيع بعض الآلات الموسيقية المُرتبطة بعملية التربية الموسيقية وأحياناً بمواصفاتٍ خاصةٍ بثقافتنا، وما زالت هذه العملية في الاتّجاهين مستمرَّة، إضافةً إلى الندوات، والكونسرات لطلاّبنا والأساتذة، وإنتاج الفيديو كليبات التي ننشرها عبر وسائل التواصُل الاجتماعي إلى كل العالم".
أما عن ظاهرة التشدّد الديني وتحريم الموسيقى في أوساط مُعيّنة فيعتبر أحمد همداني أنّ هذه المُعضلة أحد أهمّ الألغام التي تحدَّثَ عنها ويسعى إلى تفكيكها بجهدٍ كبيرٍ مع الفريق.
ويؤكِّد في هذا الإطار أنهم خاضوا بحوثاً فُقهية دينية وتتبَّعوا أصل الخلاف الفُقهي في هذا الموضوع أو أصل تَشكُّل هذا الموقف تجاه الموسيقى.
وقد توصَّلوا إلى نتائج مهمّة أوّلها أنّ النظرة الفُقهية الدينية تجاه الموسيقى اتّخذت طابعاً خلافياً داخل المؤسَّسة الدينية: "لا تقول كل المراجع الدينية ولا يقول كل المُفتين والفُقهاء بتحريم الموسيقى بل ثمّة مَن يعتبرها من أهمّ الوسائل التبليغية التبشيرية وقد فَهِمَ هذا البعض حقيقة الفن والموسيقى. أمّا الطرف الآخر المُتشدّد، فاكتشفنا أنّ لديه مشكلة معرفية موسيقية عندما يُحرِّم الموسيقى لأنه فعلياً يمارس الموسيقى في الوقت عينه على المستوى الترنيمي في الشعائر الدينية المختلفة بل ويُشجّع عليها".
ويؤكد همداني: "حاولنا أن نضيِّق مساحة الاختلاف من خلال أنشطة ثقافية وترجمة بعض الكُتب المرجعية وإصدار بعض النشرات، وحتى على مستوى المناهج التي ألَّفناها وكانت تُراعي كل المحاذير والضوابط القِيَمِيّة الإنسانية والدينية".
ويعتبر همداني اليوم أنّ مساحة الخلاف الفُقهي مع الطرف الآخر ضاقت كثيراً وما زال العمل في هذا الموضوع مستمرّاً وقد كتب مؤخَّراً مقالة في هذا الإطار حول توصيف وتحليل واقع المُمارسات الموسيقية في المجتمع المُتديِّن في لبنان طارِحاً مجموعة توصيات في هذا الموضوع تقوم على أساس الاهتمام بإيجاد ثقافةٍ دينيةٍ فنيةٍ موسيقيةٍ منسجمةٍ مع الرؤية الإلهية للوجود الإنساني ودوره، ثم التركيز على أهمّية التخصّص الموسيقي الأكاديمي، عِلماً بأنه تحدَّثَ عن مواصفات المُنْتَج الموسيقي وكيفيّة ترويجه وإنتاجه بالشكل الذي ينسجم مع مُتطلّبات الزمان وتغيُّرات المشهد الإنساني العام.
يذكر همداني أنّ 90 بالمئة أو أكثر من طلاّبهم ينتمون إلى عائلاتٍ وأُسَرٍ مُتديّنة، وأنّ أكثر من 90 بالمئة من طالباتهم هُنّ من المُتديّنات والمُحجَّبات و"بعضهن يلبسن العباءة التي تحمل في طيّاتها دلالات الالتزام الديني الرفيع"، على حدّ تعبيره.
ويؤكِّد همداني على مستوى التطلّعات والمشاريع المقبلة أنهم معنيّون باستكمال الخُطى والجهود المختلفة في إطار معركتهم التي يخوضونها من أجل إيجاد ثقافة موسيقية مجتمعية صحيحة معاصرة وأصيلة.. وسيستكملون تواصلهم مع جميع المؤسَّسات ذات الصِلة التعليمية والمدرسية، والثقافية الفنية، والإعلامية، وحتى المؤسَّسات الدينية من أجل تحقيق هذا الهدف التأسيسي الثقافي الفلسفي الفكري الموسيقي. على مستوى المناهج التعليمية المدرسية يستكملون أجزاء السلسلة التي تحدَّث عنها بعدما أنجزوا الكُتُب للحلقتين الأولى والثانية للتعليم الأساسي. حالياً يستكملون هذه السلسلة بتأليف الكُتُب الموجّهة للحلقة الثالثة، وبذلك يكونون قد أتمّوا المنهج للحلقات الثلاث الأساسية.
أمّا على مستوى أهمّية إعداد وتطوير الكفاءات الموسيقية المُتخصِّصة التي تُشكِّل أحد أهمّ الأسلحة في معركتهم الثقافية الفنية، فإنهم بالرغم من كل الظروف يواصلون دوراتهم ونشاطاتهم في المركز مع طلابهم في كل فروع المركز من أجل الحفاظ على هذه المهارات وتطويرها، وأيضاً لإعداد "الكَوَادِر" الموسيقية الجديدة في مختلف الاختصاصات والآلات المُتاحة.
ماذا عن "مركز أطوار للموسيقى"؟
يشير همداني إلى أن الأمر بدأ معه كفكرةٍ شخصيّة وفردية بعد سنواتٍ طويلةٍ من دراساته الأكاديمية في الكونسرفاتوار كمؤلِّفِ وعازِف بيانو، وبعد مئات الأعمال الموسيقية التي لحَّنها لمختلف الجهات والقنوات والمؤسَّسات التربوية وغيرها، ثم مهنته كأستاذٍ للتربية الموسيقية، وبعدما عاينَ بشكلٍ فعليّ على الأرض عُمق المشكلة الموجودة في مجتمعنا تجاه مسألة الموسيقى والتربية الموسيقية.
لقد وجد أنّه لا بدَّ من تأسيس هذا المشروع الذي يعتبر أنّ إصلاح الحال الموسيقية في بلدنا يجب أن يكون في الاتّجاهات التالية: أوّلاً، إيجاد الثقافة الصحيحة والتأسيس لفلسفةٍ موسيقيةٍ صحيحة، وفي هذا الإطار عملوا على تشكيل لجان وقاموا بدراساتٍ ميدانيةٍ على مستوى المدارس والمؤسَّسات ذات الصلة.. والمستوى الثاني يكمُن في التدريب الموسيقي العَزْفيّ، عِلماً بأنهم يستقبلون الطلاب الذين يريدون أن يتعلّموا على أيادي أساتذة مُتخصّصين يحملون الفكر والرؤية الموسيقية التي تجمعهم في المركز، وقد تمظهرت النتائج في هذا المسار من خلال أعمالهم وحفلاتهم وأنشطتهم.. بينما يتمحور المسار الثالث حول المُنْتَج الموسيقي وهو ما يؤدّونه في حفلاتهم وعلى منصَّاتهم في وسائل التواصُل الاجتماعي من مقطوعاتٍ تُجسِّد القضايا الإنسانية التي يربّون عليها هذا المجتمع وهؤلاء "الأطواريين".
ويؤكِّد همداني أنّ المركز مستقلٌّ بشكلٍ كاملٍ وغير تابع لأيّة جهةٍ أو مؤسَّسة، ويستقبل كل الأشخاص من كل أطياف المجتمع اللبناني، ويُعامِل الجميع بالاهتمام نفسه وبالطريقة نفسها فطالما أنه قائمٌ على جوهر القضية الإنسانية فمن الطبيعي ألا يكون هناك أيّ مانعٍ لأيّ إنسانٍ يؤمِن بهذه القضية من أن ينتسب إلى هذا المركز ويكون أحد جنوده في حربه الثقافية الفنية الموسيقية.