الداكن وعبوره: ذلك المدمِّر الخبيث
لا تستهدف اسطفان التدخّل في الشأن العام. تحكي مشاعرها بعباراتها، وتضعها في تصوّر شكلي تخيّلي انعكاساً لما في داخلها.
داخل صالة غاليري "جانين ربيز" في منطقة الروشة البيروتية، البحر منفتح الآفاق من الخلف، والصالة من الأمام مضيئة بما يغني عن مزيد نور.
تطالعك الصالة بمعرضٍ بعنوان مُغاير لصورة الصالة وموقعها، إنه "الداكِن وعبوره" للفنانة اللبنانية أديلتا اسطفان. لكن لا شيء داكِناً في أعمال المعرض. كل ما فيه مُنير، زاهٍ، ومُضيء. أعمال شفيفة، مُرتبّة، تتراوح بين البيضاوي، والمُربّع والمُستطيل، وبعض أقمشة مُتدلّية من السقف، تعكس شفافية مُتعمّدة، ورقّة مشاعر أنثوية.
لمحة من طرف الصالة على أعمال هادئة تشي برغبة الجمال والتألّق، تعكس روحاً تتوق للفرح، والبهاء. ارتياح بصري وعقلي يجتاح المُشاهِد.
الغرابة أن تتحدَّث فنانة في بلد نسبة الإشعاع فيه، والنور تزيد عن أيّ مكان آخر. تردّ الفنانة: "لا أرى نوراً. ما أراه مُظلِم جداً.. مُعْتِم جداً.. لا أرى ضوءاً أبداً. الآن وصلنا إلى هوّة سوداء شديدة العُمق".
يتّضح أن المقصود بالداكِن ليس اللون المُعْتِم، ولا الظلام، بل كما تقول لــ الميادين الثقافية: "إنني أدلّل على أشياء معيّنة، الناس يعرفون أنها موجودة. يعرفون بالأسرار والخفايا. يشعرون بأمرٍ ما خاطىء. هذه الأشياء البشعة ليست بالضرورة مرئية. نحن لا نراها. هي شيء مجهول. نكتفي بكلمة "سيّئات" لأن هناك الكثير من الأشياء".
الأشكال المُتجلّية في أعمال المعرض هي نصوص وتعابير تُعرَف بــ "الداكِن"، وما يؤشّر له، "أستخدم كلمات تؤشّر ولا تصف بشكلٍ مباشر.. لم أستخدم الأسود. بل أستخدم كلمات لها علاقة بالوجع النفسي، والجسدي الناتج من الوجع النفسي، استجابة لغرابة الداكِن".
هي تشعر بوجع، ألم، مُعاناة، حَدَث، صدمة.. وما شابه، وتضعه تحت خانة "الداكِن". التعابير تختلف بين شخص وآخر، لكن بالنسبة إليها، الداكِن، على سبيل المثال، هو "الغامِق المُريع الفتّاك الصادِم الدميم الأكْمَد المُتعسّف الشائك النَتِن الساحِق.." بعض من عبارات تحسّستها في مُعاناتها الحياتية، وحملتها للوحاتها ومنحوتاتها.
يلمس المُشاهِد هذه الوقائع عندما يتقرَّب من الأعمال ليستكشف أن البساطة، والرقّة، والشفافية هي من ظواهر الأعمال. هي الإطار الخارجي للحقائق، فعند التقرّب، يتبيّن أن على كل عمل مئات من التعابير المكتوبة بخط اليد.
الكتابات هي مواصفات للداكِن، وكل ما يتمحور حوله، أو يعنيه. كل السيّئات على منصّات ورق أو كرتون، أو على حرير. تجمع الفنانة في أعمالها نقيضاً بين الظاهر الجميل، المُفْتِن، الساحِر، وبين الداخل بما يكتنز من بشاعات، وأوصاف قد توحي بالشتيمة. يمكن تفسيره بالتناقُض بين الظاهر- الرغبة- شكلاً وألواناً، والداخل- الواقع والمُعاناة- وهو توصيفات الداكِن كتفصيل في اللوحات والمنحوتات.
إخراج فني مُتنوِّع، ومختلف بين عمل وآخر، وبين لوحة ولوحة، أو مُجسَّم نحتي، أو رقعة حرير واسعة شفَّافة.
لا تستهدف الفنانة التدخّل في الشأن العام. تحكي مشاعرها بعباراتها، وتضعها في تصوّر شكلي تخيّلي انعكاساً لما في داخلها. وإن دلَّلت على شيء، فهو على حال رعيل كبير ولِدَ مثلها في الحرب اللبنانية، وعاش بشاعاتها التي تختزلها بــ "السيّئات".
"الداكِن وعبوره" هو ثانٍ بعد معرض "الدوبامين" عُرِضَ في الصالة عينها منذ عامين، و"هما استمرار لبعضهما"، كما تقول.
في العلوم، يترابط الدوبامين زيادة أو نقصاناً بمعدّلات السعادة، النور، المادي منه والمعنوي- الجسدي والعقلاني. يزداد النور، فيزداد الدوبامين، ويشعّ الإنسان بالارتياح. يطغى الداكِن مادياً أو معنوياً، فينهار "الدوبامين" مُخلّفاً وراءه الأزمات العقلية والجسدية.
تُعلِّق على ذلك بقولها: "هناك استمرارية في العمل بين معرضي "الداكِن" و"الدوبامين"، فليس هناك قطع في عمل الفنان. لا بدّ من استمرارية حتى لو تنقّل من شكلٍ إلى آخر، فهو يظل ضمن اللغة التي يعتمدها، والأدوات هي الأسماء العامة في هذا المعرض، وفي سابقه، فهي اللغة التي أستعملها كأداة أوضح".
والداكِن ليس نقيض النور- فيض الشمس. بحسب الفنانة أديلتا، إنه "حال تتعلّق بالبشر، من ناحية البشاعة التي قد تكون مُريعة.. مُخيفة.. أو بشاعة تعرَّض لها أشخاص.. من هذه الأجواء استخرجت صفة "الداكِن".
ولا تريد أن يقتصر معنى الداكِن على الظلام، فقد أعطته ما يكفي من الصفات التي تتجاوز بكثير معنى الظلام: "الداكِن لا يعني أنه الظلام، فأنا أحياناً أحب أن أقعد في الظلام مُترافقاً مع السكوت.. في ذلك نوع من الارتياح".
لكن الداكِن علاوة على ما وصفته به من عبارات تركّزت في الأعمال، هو: "هذا الغيم الضبابي غير المفهوم. ذلك المُدمِّر الخبيث. إنه ذلك الزحافة التي تحفر في أضلاعك وتلصق روحك بمستنقعٍ مالح. يقفل على شعورك بالوجود، ويتركك هائماً في الحياة، يأخذك إلى لا مكان.. ولا زمان".
علاوة على معرضيها الفنيين، فقد شاركت في العديد من المعارض محلياً وعربياً في "بيينال بكين" 2015، و"صوَر عالمية" في باليرمو 2017، و"معرض أبو ظبي للفنون" 2018.
ولئن حملت شهادة الماجيستير في التسويق، فقد تحوَّلت إلى الالتزام بالرسم منذ عشر سنوات، ونالت الماجيستير من "معهد الفنون الجميلة" في الجامعة اللبنانية، ودرست الفن في جامعة "ألبا".