العلاج بالموسيقى.. حقيقة أم وهم؟
للموسيقى تأثير على دماغ الإنسان ونفسيته.. لكن هل تنفع في علاجنا فعلاً؟ إليكم ما يكشفه العلماء وأهل الموسيقى.
وَقْع إشراقات الموسيقى يتضاعف في زمننا هذا، ويعلو تأثيرها بتوسّعٍ وازدياد عربياً وعالمياً وكونياً، على اعتبارها أساساً وأصلاً عصباً إبداعياً حيوياً وتعبيراً دينامياً ضرورياً إنْ على مستوى الإنتاج أو على صعيد التلقّي، وانطلاقاً من أنّ الدماغ البشريّ يحتاج إليها راهناً ودائماً عموماً حتماً، وفي الأزمات والمآزق والصِّعَاب على وجه الخصوص.
إضافةً إلى نواحيها الجماليّة ومساحاتها التي تُفْتِن عبرها وتؤجّج المشاعر، تُسهم الموسيقى في تحقيق توازُن الإنسان سايكولوجياً، وفي بلوغه سلامه الداخليّ في بعض الأوقات، وفي تقويته وإلهامه وتنويره ومُساعدته على المواجهة والتحدّي.
لا يمكن لأحدٍ اليوم في ظلّ تطوّر العلوم والمعارف عدم الاعتراف بالموسيقى على اعتبارها علاجاً مُغايراً مُسانداً للعلاجات الأساسية الأخرى في إطار ما يُعرَف بالـ Musicothérapie.
العلاج بالموسيقى يساعد ويدعم الناس على الصُّعُد الجسدية والعاطفية والنفسية والاجتماعية. تُلامِس الموسيقى الوعي واللاوعي معاً عند الإنسان.
لا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّ الموسيقى تنشّط منطقةً مُعيّنة في الدماغ مَعْنِيّة بالحركة والتخطيط والانتباه والتعلُّم والذاكرة. كذلك تحضّ الموسيقى دماغ الإنسان على إطلاق مادّة كيميائية تُعرَف بالدوبامين Dopamine، عِلماً بأنّ هورمون الدوبامين يُحسِّن المزاج ويُخفِّض القلق، ويُحفِّز أيضاً المتعة والفرح والدافِع.
في تصريحه لــ الميادين الثقافية يؤكّد الطبيب اللبناني المُتخصِّص في أمراض الدماغ والجهاز العصبي رمزي أنيس هلال أنّ "الموسيقى علاجٌ فعَّال للجهاز العصبي"، مشيراً إلى أنّ "الطاقة الدماغية تتأثّر سلباً أو إيجاباً بالموسيقى بحسب الـ"هرتز" Hz، وتزيد الموسيقى أو تُخفِّف من إفراز المواد الكيميائية التي تتحكَّم في عمل الدماغ والأعصاب والمشاعر والحال النفسية".
في هذا الإطار يكشف الدكتور هلال أنّ "ترجمة الموسيقى إلى حركات الجسم تُعَدُّ من أهم العلاجات لتأخير الشيخوخة".
أما من زاوية العلوم الموسيقية فيقول الفنان اللبناني والعالِم الموسيقي Musicologist الدكتور هياف ياسين في حديث مع الميادين الثقافية: "قد لا يختلف إثنان على التأثير القويّ للموسيقى أو لأيّة مادّة سمعية على خلايا الإنسان العصبية، فتنعكس فوراً على نفسيّته وعلى طريقة تفكيره، إلا أنّ السؤال الذي قد يُراوِد الأكثرية هو: هل حقاً يستطيع الإنسان أن يقوم بتعويض نُقصانه النفسيّ، فيُغيِّر طباعه من خلال الاستماع إلى أنماطٍ موسيقيةٍ مُعيّنة؟".
يجيب ياسين: "أشار إلى الفكرة هذه كثيرون تاريخياً، نذكر على سبيل المثال لا الحصر الفيلسوف الشهير الكندي في معرض حديثه عن "القول في النّغم" (رسالة الكندي في اللحون والنغم)، حيث ردّ ذلك الأثر إلى نوع البنية أي الهيكلية اللحنية، وأعطاها طابعاً إنسانياً جنسياً إذ قال: "فالوسطى: نغمة رطبة ليّنة رخيمة مؤنّثة، والبُنْصر: نغمة يابسة خشنة جزلة مذكّرة"؛ ويقصد بذلك أنّ مسافة "الثالثة الصغيرة" هي الوسطى الأنثى، أمّا مسافة "الثالثة الكبيرة"، فهي البُنْصر المُذكّر؛ واستناداً إلى هذا الطرح يمكن الاستنتاج أنّ "الثالثة المُتوسِّطة" (المسافة الموجودة بين نوعي الثّالثات) قد تكون هي الأكثر اعتدالاً في أثرها على النفس البشرية".
ويضيف: "نجد هذه الحالات الثلاث أو شبيهاتها في معرض القصّة الأسطورية عن الفارابي؛ عندما مرّ بقومٍ وعزفَ فضحكوا، ثمّ غيَّرَ العزف فبكوا، ثمّ عزف بشكلٍ مختلف فناموا في سُباتهم! كأنّ مدلول القصّة فيه إشارة إلى ثلاثة طباع بشريّة قويّة هي: طابع البَسْط (أي المسافة الذكوريّة عن الكندي)، طابع القبض (أي المسافة الأنثويّة) طابع الهدوء (أي المسافة المُعتدلة): وهذا ما يتوافق مع حركات القلب المُتعاقِبة: بسطٌ فقبضٌ فهدوءٌ. هذه الطّباع مرتبطة ببُنى لحنية مُعيّنة، لذلك من المُفيد القول إنّه في حال نُقصان طابعٍ ما عند أحدهم، وجب إسقاؤه جرعة سمعيّة من تلك البنية اللحنيّة الناقِصة فتُعيد إليه توازنه النفسيّ، والعكس بالعكس".
الموسيقى، حتى خارج إطار العلاج العلميّ، بمثابة هواءٍ هامّ جداً في عملية "التنفُّس" النفْسيّ، والترفيه والتلطيف والتنفيس عن الهموم، وهي بَرْقٌ يلتمع حضارياً ويُضيء ويُنبىء من دون أدنى رَيْب.
من جهةٍ أخرى، ثمّة اعتقاد نسبي حتى الآن على الأقل أنّ الـ battements binauraux أو Binaural beats (لا ترجمة حرفية لها بالعربية) ثؤثّر في أُطُر تقديمها الحديث بشكلٍ إيجابي وفعّالٍ على الصحة وتساعد على الاسترخاء وتحضّ على توازن "الشاكْرات"Chakras أي "المراكز الروحية "أو "نقاط اتصال قنوات الطاقة"، التي يمكن تحديد موقعها في جسد الإنسان. الأمثلة على ذلك متوافرة بتنوّعٍ في الفضاء الإلكتروني.
الموسيقية مي إسكندر شديد الحائزة ماجيستيراً في "العلاج بالموسيقى" على الرغم من أنها لا تمارس المهنة راهناً، تقول ارتكازاً على معرفتها النظرية الأكاديمية في حديثٍ إن "لا معالجة بالموسيقى بمعزل عن العلاج النفسي، لأنّ العلاج بالموسيقى تخصُّصٌ يُزاوِج بين عِلم النفس ومعارف موسيقية، ولا بدّ للذي يرغب في تلقّي العلاج من أن يحبّ الموسيقى وأن تعني له، مُتقبّلاً بالتالي العلاج".
وتقول شديد أيضاً إنه "لا يمكن الانطلاق من فكرة شفاء تام، بل من تحسين حال الشخص ومُعالجته بحسب حاله. فالموسيقى مجازاً تفتح أنبوباً مقفلاً للتعبير وتفكّ الانسدادات Blocages، وثمة حالات تتمّ الاستعانة فيها بتردُّدٍ مُعيَّن Fréquence لمحاولة العلاج من الإدمان على سبيل المثال".
المُثير للدهشة أنّ بعض التجارب والدراسات أظهرت أنّ الدماغ لا يستقبل ذبذبات الموسيقى عن طريق السمع والأذنين فحسب، بل أيضاً عن طريق أعضاء أخرى مثل الجلد والعظام! إلى هذه الدرجة تكون الموسيقى نفَّاذة وذات سطوة في مُلامستها الأعماق والأغوار، ولا غرابة بالتالي وبناءً على ذلك في عَدِّها ضمن ما ينعطف ويميل إليه الإنسان بصورةٍ تلقائيةٍ وطبيعيةٍ وما يُلحّ عليه غالباً.