"جامع طينال" المملوكي في طرابلس.. حضارات في معلم
بني عام 1377 ميلادية على أنقاض كنيسة صليبية في طرابلس.. لماذا يُعتبر "جامع طينال" من أجمل الجوامع في لبنان؟
تنتشر سلسة من المساجد الفخمة في أحياء طرابلس القديمة، ويُعتبر جامع "طينال" من أفخمها، وأجملها، وهو يُضاهي بزخارفه مساجد القاهرة المملوكية.
يقع الجامع في الجهة الجنوبية لطرابلس في المحلة المعروفة بباب الرمل، له مُميّزات خاصة، أهمّها قببه الأربع المُتفاوِتة الحجم، ومئذنته الفريدة.
وبحسب لوحة على مدخله، فقد بُنيَ في سنة 736 هجرية، أي 1377 ميلادية، على أنقاض كنيسة صليبية كانت مُهدَّمة بعد فتح طرابلس بقيادة السلطان المملوكي المنصور قلاوون، وقد تولَّى الأمير المملوكي سيف الدين طينال تحويل أنقاضها إلى جامعٍ حمل إسمه، وذلك بعد أن ظلَّت مهجورة لمدِّةٍ طويلة، بحسب مؤرِّخ طرابلس الدكتور عمر تدمري في كتابه "مساجد ومدارس طرابلس".
ويُرجِّح الباحث في آثار المدينة أواسط السبعينيات الدكتور حسان سركيس، والمُنقِّب في آثارها، أن الجامع احتلَّ المكان الذي يقوم عليه معبد "زيوس" الروماني، حيث كانت الأعمدة، وقواعدها، وتيجانها ماتزال قائمة في مكانها عند بناء الجامع.
ويعتقد مُهتمّون متابعون لآثار طرابلس، وشهود عيان، أن الأعمدة استُقدِمت من البحر في الميناء حيث تظهر عليها عوامل الملوحة من نخر الموج، وقد علقت في ثقوبها بعض أصداف من البحر.
تتكرّر شبيهات لهذه الأعمدة في الكثير من المباني الأثرية على امتداد الساحل اللبناني، في الكنائس، والمساجد، والقلاع، والمواقع الأثرية، وليس في الأمر عجباً في الاستفادة منها في عمارات مُتفاوِتة العصور والأعمار.
وفي جامع طينال، مزيج معماري يختصر الحقبات الحضارية التي مرّت على تاريخ طرابلس، منها قاعدة العمود الرومانية العهد، وتاج العمود الجيري البيزنطي الأحمر، منحوت على الطراز الكورنثي، ويتركَّز الطابع المملوكي في العمارة التي تعلوها من عقود، وقبب مبنية بالحجارة الرملية.
أقسام الجامع
للجامع باب شرقي مُطلّ على باحته الخارجية، ينتصب عند طرفيه عمودان من الغرانيت، ويؤدّي الباب إلى باحته المستطيلة، وتوجد بركة مُربَّعة الشكل للوضوء تقوم على أرضيّة مرتفعة عن أرضيّة الباحة. وتُطالِع الداخل من البوابة إلى الباحة أربع قناطر بأربع قاعات متجاورة في الجهة الغربية من الباحة. أما على يسار الداخل إلى الباحة في الجهة الشرقية فتوجد غرفة صغيرة أقيمت تحت قنطرة يُعتقَد أنها كانت لحرس الجامع المُكلَّفين بفتح الباب الخارجي وإغلاقه، وداخل القنطرة بئر مُعطَّلة.
وجنوب الباحة، تقوم قنطرة مربّعة الشكل ترتكز على واجهة الجامع الشمالية، تحتها بوابة بيت الصلاة الأول ذات الحجارة البيضاء والسوداء المنتشرة في العمارة المملوكية.
ومن مُميِّزات الجامع بابه الداخلي الذي يُعتبر تشكيلاً هندسياً رائعاً بحد ذاته. فالباب مساحة مُستطيلة الشكل، مجوّفة، على جانبيها مصطبتان ترتفعان عن الأرض حوالى 60 سنتمتراً. وتزيٍّن البوابة صفوف مُتناسقة من الحجارة البلقاء (البيضاء والسوداء بتناوب)، وتتوسَّط العتبة التي تعلو الباب زخارف، وفوقها مثلّث مُتّسع الأضلاع نُقشِت داخله كتابة هي: "مَن بنى أبدله الله قصراً في الجنة".
يقوم فوق المُثلَّث عَقْد "به سنجات مُتعاشقة"، بحسب وصف تدمري، يتناوب فيها اللونان الأبيض والأسود، وفوقه بلاطة بيضاء، ثم شريط أسود تعلوه زخرفة رائعة، وعلى جانبيّ الزخرفة قطاعان من الرخام الأبيض والأسود بشكلٍ هندسي مُتناسِق، وفوق هذه الزخرفة شريط أسود آخر، فوقه قطاع مُستطيل في العرض نُقِش فيه النصّ التاريخي لبناء الجامع.
وبمستوى هذه اللوحة يلفت تدمري إلى وجود "فجوتين في زاويتيّ البوابة، تقوم فوقهما مُقرنصات مجوّفة، ثم طبقة مجوّفة أخرى تنتهي بمدليات، ثم طبقة ثالثة من المجوّفات، فوقها شريط أسود في باطن القوس، وفوق هذا الشريط خط مُتعرِّج باللون الأحمر، ثم خط مُتعرِّج باللون الأسود، وأخيراً خط مُتعرِّج باللون الأحمر يشكّل الزاوية النهائية للعَقْد المُنْكَسٍر للبوابة".
على جانبيّ الباب، وعند نهاية الإطار العَرضي له، نُقِشَ خطان مُتعرّجان من أعلى إلى أسفل، وعلى واجهة البوابة اليمنى نُقِشَت أربعة أسطر تمتد إلى باطن الجدار الغربي تتضمّن وقفيّة الجامع.
الحَرَم الجنوبي
يضمّ الحَرَم الجنوبي للجامع المِحراب، والمنبر من تسعة أساطين، بحسب تدمري، وعلى أركان الأسطوان الأوسط تقوم أربع عضاضات ترتكز عليها قبّة الجامع الثالثة، وهناك قبّة رابعة تقوم فوق أسطوان المنبر، والمِحراب على ثلاث حطّات من المُقرنصات المُجوَّفة، وهذه القبّة هي أصغر قباب الجامع.
تلفت أرضية الحَرَم المكسوَّة زخرفة من الفُسيفساء المُلوَّن ذات الأسلوب الإسلامي الخالص، ويُفيد تدمري أنه "في الحَرَمين الشمالي، والجنوبي فتحتان تتوسَّطان بركتين من الزخرفة الرخامية مهمّتهما تصريف المياه عند تنظيف الجامع".
وتعلو مدخل الحَرَم سدَّة خشبية، أشبه بالتتخيتة، يصعد إليها بسلَّم خشبي في الجهة الشرقية، وقد ازدانت جوانب السدَّة بتشكيلات فنية جميلة مُلوَّنة. ويذكر تدمري أن "حوافي الأساطين المحيطة بالأسطوان الأوسط مكسوَّة بأحجارٍ رُخامية بلقاء (بيضاء وسوداء).
أما مِحراب الجامع فهو من الحجارة الرملية التي بُنيَ بها الجامع، وهي حجارة مُنتشرة في مختلف أبنية طرابلس، وفي حُقَبٍ تاريخية مُتفاوِتة، ويقوم على جانبيه عمودان من الرخام الأبيض متوَّجين بزخرفة بسيطة. وعلى يمين المِحراب يقوم منبر الجامع الخشبي المزخرف.
المئذنة
تمتاز مئذنة جامع الطينال عن مآذن طرابلس بطرازها المعماري، وبوجود سلّمين حجريين داخلها، وهما غير مُتقابلين بحيث إذا صعد إثنان في وقت واحد في السلّمين لا يلتقيان، وهذه ظاهرة نادرة في المساجد، بحسب تدمري.
يشرح تدمري واقع المئذنة الهندسي، فهي "مربَّعة الشكل في القسم الأسفل منها الذي تبدو عليه آثار أربع نوافذ في جهاتها الأربع، وبأعلى المئذنة شُرفة مُستديرة بارزة، وبناء الشرفة يشبه البرج الحربي، وهذا ما يجعل بعض الأثريين يعتقدون أن المئذنة كانت في الأصل برج الأجراس للكنيسة. وتنفتّح في هذا البرج أربع نوافذ عريضة. وللمئذنة شُرفة أخرى أصغر من الشُرفة الأولى، وفي وسطها يقوم رأس المئذنة السُداسيّ الأضلاع الذي ينتهي بقبّةٍ صغيرة بيضاوية الشكل يعلوها الهلال".
وفي معلومات أخرى، أن مدرسة تبعت للجامع، درَّست المذاهب الأربعة، وكانت بداخله، وفي هذه الغرفة كان يدرس إبن حجر العسقلاني، عالِم الفلك والنجوم.