أن يتحوّل الإنسان إلى "مقبرة متنقلة"
هذا الضّغط الهستيري على وجود الإنسان ومشاعره، يحوّله إلى كيان مُفرَغ من المعنى، يخجل من التعبير عن مشاعره، ويجعله آلة ميكانيكية عمياء.
العواطف الإنسانية التي تتحكَّم بالأنساق الاجتماعية، تُمثِّل نظاماً وُجودياً مِن الرموز والإشارات. وتحليل هذا النظام المُركَّب يتطلَّب عودة الإنسان إلى أعماقه، والبحث عن الأشياء التي ماتت فيه. والإشكاليةُ المركزية في المُجتمعات هي عدم الانتباه إلى تحوُّلات الإنسان الوجدانية، لأنَّ النظام الاستهلاكي المُغلَق يَطحن المشاعرَ الإنسانية، ويُصنِّف العواطفَ كمنظومةٍ عبثيّة، وتراكيب ساذِجة، ولحظات ضَعْف، ويُكرِّس النزعةَ المادية المتوحَّشة في عَالَمٍ مُوحِش.
وهذا الضَّغْط الهستيري على وُجود الإنسان ومشاعره، يُحوِّله إلى كِيانٍ مُفرَغٍ مِن المَعنى، يَخجل مِن التعبير عن مشاعره، ويَجعله آلةً ميكانيكية عَمياء، ومقبرة مُتنقلِّة لا شيء فيها غَير طَعْم العَدَم ورائحة المَوت، المَوت في الحياة.
تَحَوُّل الإنسان إلى مقبرةٍ مُتنقلّة، يَعني أن الكِيان الإنساني صار وِعَاءً للأحلام المَقتولة، والذكريات المَيتة، والأفكار المَذبوحة، والأصوات الخَرساء. وهذا الانهيارُ الشامل في داخل الإنسان، يَنقل معنى وُجوده مِن الهُوِيَّة إلى الهاوية، ويصير الإنسانُ الخاضِع للضغْط الاجتماعي اليومي شَيْئاً عابراً في الزَّمان والمكان، وكائناً حَيّاً وهميّاً مُكوَّناً مِن عناصر مَيتة، أي إنَّ الإنسان يصير مجموعة أموات، وكأنَّ الأموات قد اجتمعوا في جِسمٍ واحد.
وإذا فَقَدَ الإنسانُ شرعيةَ وُجوده، وصارَ شيئاً مِن الأشياء، تَحَوَّلَ إلى سِلعةٍ في سُوق العَرْض والطَّلَب، وتحوَّلت مشاعرُه المُتساقِطة إلى ريشةٍ في مَهَبّ الرِّيح. وعِندئذ، ستنهار الفلسفةُ الاجتماعية بأكملها، لأنَّ مصدرها الإنسان.
والفلسفةُ الحقيقيةُ القادرة على تكريس فِعل التغيير نَحْو الأفضل، إنَّما تُؤخَذ مِن ملامح الإنسان، وليس مِنَ الشعارات الرَّنَّانة، لأنَّ ملامح الإنسان هي المِرْآة التي ينعكس فِيها جَوهره الداخلي.
ومَهما كان الإنسانُ قادِراً على ضَبْط مشاعره، والسيطرة على مِزاجه، والتحكُّم بملامحه، فَلَن يَستطيع إخفاء حقيقته الداخلية وجَوهره العميق وماهيّته الكامِنة، وَسَوْفَ يَنعكس ضوءُ القلبِ الداخليُّ في مِرْآة وجه الإنسان الخارجي.
ولا يُمكن للإنسان أن يتحرَّك باتجاه المجتمع لبنائه وإعماره معنويّاً وماديّاً، إلا إذا نجح في بناء نَفْسه أوَّلاً، وهذا يعني أنَّ الخُطوة الأُولَى في طريق الوَعْي الاجتماعي، هي ارتداد الإنسان إلى نَفْسه ، ورُجوعه إلى كِيانه، مِن أجل التنقيب عَن الشظايا المُتناثِرة في أعماقه، والأشياء المَيتة في داخله.
ورحلةُ الإنسان باتجاه ذاته العميقة لتنظيفها وتَطهيرها، وإعادة الأشياء المَيتة إلى الحياة، هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع. وكُلَّما عَادَ الإنسانُ إلى ماهيّة وُجوده الكامِنة في أعماقه، اكتشفَ مَنْبَع مشاعره، ومَصدر أحلامه.
ويُمكن القَول إنَّ العَودة إلى الأنا أهم وسيلة لمعرفة الآخَر، بكُل مَعَانيه. والوُصول إلى قاع البِئر ضروري لمعرفة طبيعة تَكوينها ومدى قُدرتها على استيعاب الماء.
إذا نجح الإنسانُ في ترميم ذاته، والانبعاث مِن جديد، وتَكوين جبهة مُتماسِكة في داخله، فإنَّه سيُدرِك حقيقةَ الجَوهَر الإنساني، وماهيّةَ البناء الاجتماعي، وعِندئذ يُصبح قادِراً على بناء مُجتمعه، والأخذ بأيدي الناس إلى بَرّ الأمان، ولا يُمكن للغريق أن يُنقِذ غريقاً، ولا يُمكن وضع الورود في مزهرية مكسورة. وهاتان الحقيقتان تُمثِّلان قاعدَتَيْن رَمْزِيَّتَيْن في منظومة الفِعل الإنساني المُتَّجِه نَحْوَ المجتمع، لإخراجه مِن حَال العَجْز والشلَل، ومَنْحه القُدرة على الوُقوف على قَدَمَيْه.
ينبغي أن يَكون المُنقِذ قوياً ومُتماسِكاً وواقفاً على أرض صُلبة كي يُنقِذ الغريقَ، ويَنتشله من أعماق الهاوية السحيقة، لأنَّ المُنقِذ هُوَ المُخلِّص، ولا يُمكن أن تتحقَّق لحظة الخَلاص (الانعتاق)، إلا بوُجود طرفٍ قوي يَمتلك الإحساسَ الواعي بذاته القادِرة على البَذْل والعطاء والإنقاذ.
أمَّا الضعيف فهو عاجز عن إنقاذ نَفْسه، فكيفَ يُنقِذ الآخرين؟ إنَّ فاقِد الشيء لا يُعطيه. وإذا كان الإنسانُ يُريد لعب دَور المُخلِّص، فيجب عَلَيه تَخليص نَفْسه مِن حُطَامها، وإنقاذ مشاعره مِن رُكامها، كَي يصل إلى حال السلام الروحي، والتوازُن الداخلي، ويُصبح قوياً مُتماسِكاً قادِراً على احتضان المعاني الإنسانية الرفيعة، وتقديمها للآخرين لتخليصهم مِن الفراغ، وإنقاذهم مِن العَدَم.
أمَّا الإنسانُ المُنهار فهو كالمزهرية المكسورة، عِبارة عن مجموعة شَظَايا مُتناثِرة، لا أحد يَعْبأ بها، ولا أحد يُريد وضع الورود فيها.