مصطفى سليمان يعيد إحياء صناعة بلاط الموزاييك
في مشغل قديم في طرابلس شمال لبنان قرر مصطفى سليمان إعادة إحياء صناعة بلاط "الموزاييك" التقليدي. تعالوا لنتعرف إلى قصته.
في مشغله المُتدرِّج له من بيت حميه، عثر مصطفى سليمان على قوالب عتيقة خُصِّصت لصناعة البلاط التقليدي المُنقرِض، والمعروف بــ "الموزاييك" الذي بات حتى سبعينيات القرن الماضي، أرخص أنواع البلاط، وأقلّها قيمة وحضوراً بالمُقارنة مع الرخام، أو "السيراميك" المُتعدّد الأصناف.
لفتته القوالب، وحملته إلى فكرة مُتمايزة لتصنيع البلاط الذي لم يعد بالإمكان الحصول عليه، لكنه ما انفكّ يغطي أرضيّات القصور، والفيلات العتيقة، كما البيوت المتواضِعة، وفي كل منها مستوى خاص من التفنّن، والتقنية، والذوق.
راودت سليمان فكرة إعادة العمل بهذا النوع من البلاط المُنقرِض، خصوصاً وأن بعض أصحاب البيوت المُشيَّدة حديثاً، والوافدين من أكثر من منطقةٍ لبنانية، تقدَّموا منه طالبين هذا الصنف من البلاط، فكان يعتذر لأن تقنية تصنيعه لم تعد مُتوافرة.
رأى سليمان أن العمل في البلاط قد يكون مُفتاحاً لصناعة مستقبلية تكفيه لسدّ حاجات حياته، فرمَّم المصنع، وأعاد تشغيله بما هو رائج من قصّ رخام، أو بلاط من الحجارة الصخرية ذات العروق والخطوط، والألوان الجميلة.
لم يكن السوق يتطلَّب مُعلّماً جديداً بإلحاح، خصوصاً مع تفاقم الأزمات الاقتصادية في لبنان منذ عقود. شعر سليمان بحسب حديثه لــ الميادين الثقافية أن "صنعة البلاط الرائِجة لا تفي بالمطلوب، وما بتملّي العين، لذلك قرَّرت تحديث عملي".
حمل القوالب العتيقة إلى مصنعٍ للحديد، وصنع منها عدَّة أصناف. ثم بحث في طريقة تصنيع الموزاييك مع قدماء يتذكّرونها، فجمع لِمام معلومات وراح يُجرِّب تطبيقها بنفسه على القوالب الجديدة، حيث لم يعد يقلق من احتمال فُقدانها طالما هناك حدَّادون يصنعونها.
كل ما يحتاجه تصنيع الموزاييك، وفق سليمان، هو قوالب ومكبس ومجلى للبلاط وبضعة أوعية، والمكبس والمجلى متوافران في مشغل بيت حميه، والقوالب باتت جاهزة.
بدأ التجربة بصبّ الإسمنت الأبيض مع تلوينه بأصباغٍ مختلفة الألوان، خصَّص وعاء لكل لون منعاً لاختلاط الألوان وتشويه صفاوتها. ويروي لنا كيف تُصنَع البلاطة بعد أن اختبرها إلى حد الاحتراف فبات المُعلَّم الأول والوحيد لها. يقول: أحضر معجونة سائلة للإسمنت الأبيض المُلوَّن، وفي كل دلو أضع لونا مُحدّداً. أثبّت القالب على طاولة مُسطّحة، ومُستقيمة. أصبّ طبقة من الإسمنت الأسود على ارتفاع نصف القالب، وأتركها حتى تجفّ. ثم أبدأ بصبّ لون في الفتحات المُخصَّصة له بصورةٍ مُتناسقة، فالزهرة البيضاء يُفتَرض أن تكون لها أربع فتحات مُتقابلة، وهي تتداخل مع عروقٍ مُتناسقة أخرى أصبّ فيها الأصفر، وأخرى للأحمر. وبعد ملء كل فراغات القالب، أدخله في المكبس، وأضغطه لثوانٍ، على مستوى ضغط مُحدَّد، ثم أسحب القالب، أفتحه، وأخرج البلاطة لوحة جميلة مُتكامِلة.
بعد صنع عدَّة بلاطات، يتركها عشرة أيام لتجفّ جيّداً، ثم يبدأ بجليها بالمجلى المُخصَّص لذلك. يضعها فيه على الوجه الملوَّن، ويبدأ المجلى بالدوران، مُمرِّراً البلاطات على حجرٍ خاصٍ يعمل فيها صقلاً وتنعيماً، لتصبح لمَّاعة كالمرآة.
ويُضيف سليمان أن "الطلب قليل على هذا النوع من البلاط رغم جماله، لأن الناس نسوه ولأن أثمانه أعلى بكثيرٍ من أثمان البلاط الرائج، ويصل الفارِق إلى ثلاثة أضعاف".
ورغم أن المواد التي يصنع منها الموزاييك ما هي إلا الإسمنت العادي الأبيض، الذي يلوَّن بصبائغ غير عالية الثمن، إلا أن تكاليفه أعلى بكثير، والسبب بحسب سليمان، هو الوقت الذي تستغرقه صناعته.
وعن هذه الناحية من الصناعة يقول: "يستطيع المُعلّم أن يصنع بين 30 و 40 بلاطة يومياً إذا كان طول ضلعها ثلاثين سنتمتراً، ويقلّ العدد إذا زاد الطول إلى الأربعين، وبمعنى آخر كلما كبر ضلع البلاطة تضاعف ثمنها، وهذا تحدٍ غير موجود في صناعة البلاط العادية من سيراميك وحجر".
تختلف أشكال البلاطات المطلوبة وفق رسوم وتصاميم مُتعدّدة، تبدأ بالبلاطة البسيطة الأصغر حجماً، ضلعها ثلاثين سنتمترا، أو أربعين، وكل بلاطة لها رسمتها الخاصة المُكتمِلة. أما العمل الأكثر تعقيداً، والذي يحتاج إلى مهارةٍ فنيةٍ فهو اللوحات الكبيرة التي تحلّ محل السج!ادة في الأرض، وفي هذه الحال، يبدأ التعقيد بتصنيع لوحة ضلعها ثمانين سنتمتراً يصعب صنع قالب خاص لها، فتقسم اللوحة إلى أربعة أجزاء، لكل جزء قالبه، ومتى صبّت البلاطات الأربع، لصقت قرب بعضها، تكمِل الواحدة منها الأخرى، فتظهر اللوحة المطلوبة.
يصل اختيار متذوّق للسيراميك إلى اختيار لوحة كبيرة تغطّي أرض صالة المنزل أو الفيلا أو القصر، بمساحاتٍ ممتدةٍ وطويلةٍ، تشبه السجَّادة، وهنا تظهر الحِرَفية العالية للمُعلّم، ومستواه الفني الذي يُضاهي أهمّ الرسَّامين والنحَّاتين. فتقسم اللوحة إلى أجزاء بطريقةٍ فيها حِنكة احترافية، ويبدأ المُعلّم بصبّ اللوحة أجزاء مُتفرّقة، ثم يصبّها كلها بطريقةٍ من إثنتين، إما يصبّ كل جزء منفصلاً عن الآخر، ثم يُعيد لصقها، وتبليطها، فتصبح لوحة مُتكامِلة، أو يغرس القوالب مُتلاصِقة في الأرض، ويقوم بصبّها فتخرج لوحة واحدة مُلتصقة بالأرض، ومُتكامِلة.
سليمان يتحدَّث واثقاً من نفسه وصناعته، ويقول: "نستطيع أن ننفّذ أية رسمة أو تشكيلة بغضّ النظر عن تعقيداتها، ولا يقف حاجز يمنعنا من تحقيق أية رغبة للزبائن".
يقع مصنع مصطفى سليمان في الميناء، وهو حيّ مُستحدَث، يُقيم فيه نازحون من مختلف المناطق المحيطة بطرابلس، خصوصاً من فقرائها، يعمل جلّهم في الصناعات الحِرفية، والأعمال التي تتطلَّب جهداً جسدياً لا يستطيعه بقيّة السكان المُقيمين في صالونات مُرفّهة.
وفي هذ الحيّ تقوم مشاغل عديدة لحِرَف مختلفة، حيث لا يزعج الضجيج المُتصاعِد منها أحداً، لأن الحيّ بعيد نسبياً عن مناطق السكن، ويقع قبالة قبور الإنكليز، لجهة الجنوب، ولا يفصلها عن البحر إلا كورنيشه.