سفر بلا تذكرة.. عن مكتباتنا التي حمتنا من "كورونا"
لعبت المكتبات في البيوت دوراً كبيراً في مساعدتنا على قتل الوقت خلال فترة الحجر المنزلي. فكيف عاش بعضنا هذه التجربة؟ وما هي المبادرات التي خرج بها؟
أعادت جائِحة "كورونا" إلى ذِهْن القرّاء فصولاً من رواية "العمى" لخوسيه ساراماغو. يُعزى ذلك إلى التشابُه الحاصِل بين رواية الكاتب البرتغالي وبين مُلابسات هذا الوباء العالمي. حيث فقدت السيطرة على انتشاره وصولاً إلى الصراع من أجل البقاء وتجاوز الإنسان للمنطق والأخلاق أحياناً، وذلك لغايةٍ وحيدةٍ، تأمين احتياجاته وبقائه على قَيْد الحياة.
أعادتنا "كورونا" أيضاً إلى منازلنا؛ صرنا محجورين مع عائلاتنا، حَجْر يشتمل على أفضل ما في العلاقات العائلية وأسوأ ما فيها أيضاً، وفيما غَرَق بعضنا في مشاكلهم، مع واجباتهم التي تراكمت بفعل الجَرَيان المحموم للأيام، وجد آخرون أنفسهم أمام نسيجٍ من اللغة، تآلف بامتزاج الفلسفة بالأسطورة والشعر والفن والعلوم. لقد وجد هؤلاء أنفسهم محجورين مع الكتب.
الحكواتي أحمد الراشدي، رأى في كتابه "المُنقِذ والمؤنِس" فترة الحَجْر الصحّي، مُعتبراً أن هذه المرحلة الطارِئة "كانت فُرصة ذهبية طال انتظارها، وكنت أتطلّع لعزلة روحية أنقِّي بها ذهني، رغبة في الاجتماع مع أطفالي وعوالمي الجوَّانية"، حيث إيقاع حياته السريع، ورحلة العمل اليومية ذهاباً وإياباً من مدينته سمائل إلى مسقط التي تبعُد 100 كم، لا توفِّر له مثل هذه الفرصة.
يَعرف الراشدي المُهتم بأدب الأطفال، أن مكتبته التي أسَّسها على مدارِ سنواتٍ طويلةٍ ستقدِّم له العَوْن؛ فهي تضمّ حقولاً معرفية شهيّة، عدا عن مكتبةٍ خاصةٍ أفردَها لأدب الأطفال والناشئة.
ويبدو أن الكاتبة الإماراتية نسيبة العزيبي التقطت هذه الفرصة هي الأخرى "للالتحام مع الكُتب" بحسب وصفها، مُشيرة إلى كمّ الكُتب التي تكاثرت لديها بسبب الشراء المُكثَّف من المعارض الدولية، من دون وجود الوقت الكافي لقراءتها.
هل الكُتب وحدها تكفي؟
"المكتبة وحدها لا تكفي لتخفيف وطأة البؤس الذي طال العالم بسبب كورونا"، قالت الشاعرة والكاتبة التونسية إيناس العباسي، في حديثٍ خاصٍ للميادين الثقافية، نافيةً أن الكُتب وحدها بمقدورها تخفيف ثقل البارانويا التي اجتاحت العالم، حيث الخوف من تنفّس الهواء وانتقال الفيروس عبره، والاختباء خلف كمَّامة طيلة الوقت، فلم يعتد الإنسان أن تُسلَب حريّته منه بهذا الشكل، على حدّ تعبيرها.
العباسي وهي قارئة نَهِمَة منذ طفولتها، ترى أن الأشخاص الذين اعتادوا على قراءة الكُتب الدَسِمة، كالأدب الروسي مثلاً، لا يمكنهم الانغماس في مثل هذه القراءات، بسبب مشاعر القلق التي انتابتهم، "مررت بفترة كنت مُتلهّفة خلالها لترجمة كتاب كنت أعمل عليه، رافقته أيضاً كتابة رواية لي، ثم بدأت أشعر بثقل الخوف من غموض المستقبل"، ثم لجأت إلى متابعة شبكات التواصُل الاجتماعي وما تعرضه من أمسياتٍ شعريةٍ وموسيقيةٍ، عدا عن لَوْثة الطبخ التي اجتاحت العالم، لكن ثقل الشعور بالعزلة عاودها مرة أخرى، فمن وجهة نظرها "العزلة مهمّة للكاتب والمُبدِع، ولكن العزلة التي يختارها بإرادته، وليس التي فُرِضَت عليه وعلى العالم بأكمله".
ونظراً إلى خصوصيّة هذه المرحلة والتي بحسب الأدباء والقرَّاء الذين صرَّحوا للميادين الثقافية، فإن القراءة لم تكن تَرَفاً أو هواية يمكنهم ممارستها باستمتاعٍ طيلة الوقت، لذا فكّر الراشدي وهو كاتب أدب أطفال، أن يتخيَّر من أدواته القرائية ما يناسب شغفه في هذه المرحلة، موضحاً أنه "مع عزلة كورونا رأيت أن القراءة الانتقائية ستكون أكثر إشباعاً لي، خاصة أني شخص ملول، فاخترت القراءة في مواضيع أجد في نفسي منها قلقاً معرفياً".
"ثيمة وليّ العهد" هي ما شغلت تفكير الراشدي، كيف عالج الأدب، السينما، الدراما هذه الشخصية؟ كيف قُدّمت شخصيّته من قِبَل الروائي والسينارست، المُمثّل والمخرج، لذا عمل على طمأنة قلقه نحو هذا الموضوع، بوضع خطّة قرائية وبصرية، قرأ وشاهد خلالها حرصاً منه على "تطوير معارفي الإبداعية والنقدية في ثقافة الطفل، وأملاً في الاشتغال القريب على رواية تاريخية تحمل هذه الثيمة".
أما نسيبة العزيبي والتي تكتب في نفس المجال وتعمل مُترجمة والتي صدر لها عدة مؤلفات في أدب الطفل واليافعين، فقد كانت "القراءة المُتخصِّصة" قرارها، حيث طالعت كتباً تدور حول "العنصرية" في أدب الطفل. وقالت مُعلِّقة على هذا التفصيل "تفاجأت بمدى مُلاءمة محتواها مع ما يمرّ به العالم من قضايا باتت تشغل الرأي العام، وأعتقد بأني كنت محظوظة لتمكّني من جلبها من الخارج، قبل تعطّل الملاحة الجوية وخدمات التوصيل".
لكن وبحُكم عملها في مجال البحوث الدوائية والمُخدّرات، كانت مُضطرّة إلى متابعة عملها المتعلق بقراءة البحوث العلمية وتدقيق النصوص الأدبية المترجمة،وحالما تنتهي هذه الأعمال المُلحّة، تقول "أستمتع بالقراءة بشكلٍ حرٍ وغير خاضِع لترتيبٍ أو تنظيم".
وتتّفق معهما العباسي، فتقاطُع أعمالهم في حقل الكتابة والترجمة؛ جعلها تحافظ على صلتها بالقراءة، وأفادت "حرصت على أن تكون قراءاتي خفيفة، مُرتبطة بالفانتازيا والخيال، بحثاً فيها عن دفعة معنوية ونفسية"، كما دُعيت إلى المشاركة في ندوة افتراضية "كيف نعيش الحَجْر، للتشجيع على القراءة"، لكنها اعتذرت عن المشاركة، موضِحةً "فضّلتُ الصمت على أن أنقل للآخرين أية مشاعر غير إيجابية، كما امتنعت عن نشر نصٍّ كنت قد كتبته عن العزلة، ربما لأننا نحتاج مسافة للكتابة عمّا نعيشة وما عشناه".
"في كل بيتٍ حكاية"
أمام التغيّر المُفاجئ لإيقاع الحياة وإغلاق المكتبات العامة، علاوة على إلغاء معارض الكُتب الدولية، قرَّرت الحكواتية المغربية آمال المزوري العمل في هذا الوضع الطارئ.
هكذا أطلقت مبادرة تستغلّ بعض التطبيقات التكنولوجية المُتاحة ومواقع التواصُل، وتقول "كان هذا هو الحل الأمثل برأيي والذي لا يتطلّب الاختلاط مع الآخرين، مُراعاة لظروف السلامة".
ولجأت المزوري إلى أسلوب "الحكاية" نظراً إلى أهميّته في المنظومة التربوية، وأضافت "ارتأيت أن الحكاية ستبعث الروح في المُبادرة وتفتح باب النقاش والحوار بين العائلة، خاصة في ظروف الحَجْر والعَزْل الاجتماعي".
"في كل بيت حكاية" هو إسم المُبادرة التي قدَّمت فيديوهات وإعلانات تحثّ على الاهتمام بالقراءة، وإشراك الأسرة في التعقيب والسؤال ليتمكّنوا من تنمية مهاراتهم الإدراكية، وتذكيرهم بحكايةٍ قبل النوم لأطفالهم، وأشارت المزوري "كنا مُهتمين بألا يُمارَس الإكراه على المُشاركة، حرصنا أن يكون الإقناع حاضراً وعن طواعيّة".
هذه المُبادرة كانت تتمّ بالبثّ المباشر، بالشَراكة مع صفحات لمكتبات ومؤسّسات ثقافية، شاركت فيها مراكز خاصة بالطفل من المغرب وفلسطين.
من جهته ساهم الراشدي في إطلاق مُبادرة "القراءة في البيوت"، حيث كانوا يرسلون على الواتس آب الخاص بالأهالي، صوَراً لمجموعةٍ مُنتقاة من الكتب ومرفق موجزاً عنها، ومَن يرغب باستعارة هذه الكتب، يتمّ توصيلها إلى بيته.