سوق النحّاسين الدمشقي.. شاهِد على تَضَعْضُع مهنة عريقة
رغم الحرب وقلّة استخدامها ما زالت الأواني النُحاسية حيّة. إليكم جولة في سوق النحّاسين الدمشقي واستطلاع لأحوال هذه المهنة العريقة اليوم.
طَرق وضجيج لا ينقطعان. أصواتُ تُشكّل مع بعضها ما يشبه "معزوفة موسيقية". رغم الحرب وقلّة استخدامها اليوم، إلا أنّ الأواني النُحاسية ما زالت حيَّة. في سوق النحّاسين الدمشقي، ورَش قليلة تعمل في ظروفٍ قاسيةٍ، وأيادٍ مُتْعَبة يلين النحاس تحت طرقاتها.
إلى جانب سوق المناخلية في شارع الملك فيصل يتموضَع ذلك السوق، أصوات الطرق على النحاس تطغى على المشهد العام، لِتَدل على سوق يحفظ مهنة تراثية عريقة ما زالت حيَّة رغم توالي السنين، ويُقدَّر عُمرها بأكثر من 800 عام مُتأصّلة كشاهدٍ على عراقة دمشق.
من الجدّ إلى الأحفاد
مصطفى ياغي صاحب إحدى ورش النحاس يقول خلال حديثه للميادين الثقافية إنّ عائلته تعمل في مهنة النحاس منذ أكثر من 90 عاماً، وتعلّم الحِرفة من والده، واليوم يُعلّمها لولده، وذلك بسبب ابتعاد الحرفيين عنها وعدم رغبة أحد بالعمل بها لأنها مُتعِبة.
يعمل ياغي في ورشته لتصنيع الأواني النحاسية الكبيرة، والتي يستغرق إنجاز الواحدة منها جهد يومين مُتتاليين، ويقول "هذه الأواني تحتاج للطَرق عليها من كل جوانبها، ومن ثم صَهْرها على الغاز كي تصبح جاهزة للاستعمال".
فيما يعتمد العمل على الجهد العضلي عبر أدوات المهنة المُتمثّلة في المطرقة وعدَّة الصَهْر، إلا أنّه لكل قطعة عدّة شغل خاصة بها وفقاً للطراز والشكل الذي تأخذه كما يكشف لنا ياغي.
وعلى الرغم من قلَّة استخدام النحاس في المنازل، لا تزال حرفة النحاسين قائمة، لكنها تحوَّلت بشكلٍ أكبر لصالح أصحاب محلات الحلويات الشرقية من خلال الحِلل النحاسية التي يستخدمونها، وهو ما يؤكِّده ياغي مشيراً إلى أن الإقبال على النحاس اليوم هو "من قِبَل معامل الحلو والحلويات الشرقية". والسبب في ذلك يعود لأن النحاس يحفظ الحرارة، واستخدامه من الناحية الصحية أفضل. إضافة إلى استعماله كديكورٍ في المنازل.
يُعاني ياغي من معوّقات عديدة في ورشته، ومنها الانقطاع الطويل والمستمر للكهرباء، وقلَّة توافر مادة الغاز، حيث لا يوجد أيّ دعم لحرفة النحّاسين من قِبَل وزارة السياحة السورية. ويقول "المهنة مُهمَلة، ولا يوجد تشجيع للحفاظ عليها، وربّما تنقرض مستقبلاً" مع ابتعاد الشباب عن الحِرَف اليدوية الصعبة والمُجْهِدة. في حين كان واقع حرفة النحّاسين قبل الحرب أفضل مما عليه اليوم بكثير، وربما لا يمكن مقارنة ظروف المهنة مع سنوات ما قبل الحرب. ويشرح ياغي لنا قائلاً إن "السوق يعاني اليوم من قلَّة زبائنه، حيث لا سياح أجانب يأتون للشراء بفعل الحرب، بينما قبلها كان هناك سياح يشترون من مُنتجات السوق التراثية".
تُصنَع أغلب صفائح النحاس المُستخدَمة بالعمل في حلب، وتستورد الصفائح ذات اللون الأصفر لتغطي حاجة ما تبقّى من ورَش في السوق، والتي يُقدَّر عددها ب 10 ورش، بعد أن كانت حوالى 400 ورشة. فهناك العديد من حِرفيي المهنة الذين سافروا وتركوا مهنتهم وفقاً لياغي الذي أكَّد أن "الذي يذهب لا يأتي أحد مكانه".
النَقْش على النحاس
لا يختلف الوضع في ورشة زاهر حسنة، الذي ورث العمل بالنحاس عن جدّه منذ حوالى 100 عام. وفي حديثه للميادين الثقافية يؤكِّد أنه "ما زلنا محافظين على مهنتنا التي كان يعمل بها اليهود قبلنا".
تتخصّص الورشة بالنَقْشِ اليدوي على الأواني النحاسية عبر زخرفات ورسومات. "نعمل بالنحاس الأصفر المُستورَد، والنحاس القديم تتمّ إعادة تصنيعه"، يقول حسنة مشيراً إلى أنّ كل المهارات يدوية مُكتسَبة بالتعلّم والصبر، فالقطعة الواحدة تحتاج لأسبوعٍ كاملٍ لإنجازها.
يعلم حسنة أنّ العمل اليدوي لا يُنتِج مرابِح كبيرة. لكنه يقول "المهنة نعمة من الله". ويشترك في مُعاناته مع بقيّة الورَش المُتبقيّة، والمُتمثّلة في غلاء صفائح النحاس والمواد الأولية.
أما حيدر رباب صاحب ورشة نحاس فيشرح لنا أنّ "مهنة النَقْش اليدوي تتمّ بناء على قاعدة الوردة، ومن ثم تمّ تطوير هذه الوردة لتصبح لها عروق، وهكذا ووردة بجانب وردة لتكتمل الصورة" مُضيفا ً"نحن مَن يبتدع هذه النقوش".
ويبلغ سعر كيلو النحاس حوالى 10000 ليرة سورية (10$) حيث تعاني مهنة النحّاسين من معوّقات عديدة منها غلاء الصفائح النحاسية في السوق المحلية، وقلَّة توافر معدّات العمل الأساسية كالغاز والكهرباء.
لذلك يتمنَّى حيدر من الحكومة السورية توفير الغاز، حتى لو كان حرّاً (غير مدعوم) ومَنْع احتكاره ومادة المازوت، حتى "أستطيع أن آكل وأشرب"، حسب تعبيره.
كما يعتبر أن المهنة "أصبحت تراثاً، أكثر من كونها عملاً يومياً للمعيشة". خصوصاً في ظلّ قلَّة الطلب على النحاسيات، وارتفاع الأسعار بشكلٍ عام لا سيما المواد المُصنّعة، إضافة إلى تحكّم بعض المُتنفّذين في دمشق بالمادة الأساسية للمهنة (صفائح النحاس).
حماية المهنة!
يذكر أن مهنة النحاسين وُجدت تقريباً منذ ألف عام. ويقول رباب "كحرفة يدوية نحافظ عليها انطلاقاً من عاداتنا وتقاليدنا، وما تربّينا عليه"، حيث لا يمكن له أن يترك مهنته ويعمل على سبيل المثال سائق أجرة.
كما أن جمعية الحرفيين لا تقدَّم أيّ دعمٍ للحفاظ على هذه المهنة وفقاً لحيدر، الذي قال "يريدوننا أن نعمل من دون غاز وكهرباء، وأن نبقى محافظين على حرفتنا من الاندثار". مضيفاً أنّ هناك الكثير من الناس التي تشتري الأواني النحاسية كالأباريق وغيرها لتزيين منازلها كإرثٍ ثقافي وفقاً لطبيعة المنطقة.
تبقى مهنة النحاس التراثية كغيرها من المِهَن اليدوية السورية تُصارِع لوحدها من دون انتباه مًن هم مسؤولون عن تلك الحِرَف اليدوية لضرورة صونها وحمايتها على اعتبار أنها تُشكِّل ذاكِرة وتاريخ للسوريين لمئات من السنين التي قد خلت.