"كورونا" الدرس.. أُدباء وشعراء في العزلة الجبرية
تشكّل العزلة ملاذاً للكتاب لكنّ جائحة "كورونا" فرضت عليهم العزلة الجبرية... فكيف تعاطى معها أهل الأدب، وهل كبحت رغبتهم في الكتابة والتأليف والنقاش أم العكس؟
العزلة القسرية في ظلّ جائحة كورونا تؤثّر على نِتاج الأدباء والشعراء. لطالما شكّلت العزلة الإختيارية ملاذاً إبداعياً باعِثاً على العطاء والتركيز والتخيُّل والتأمُّل واستحضار منابع الإستلهام. لكنّ العزلة الجبرية قد تكبح وتُفرْمِل الوَحي والرغبة اللذين يتغذّيان أيضاً بالأضواء والحركة الطبيعية.
العزلة المفروضة قد تحرِّض أيضاً على تفريغ شحنات الذات العميقة بمُتضاداتها أدبياً وشعرياً من خلال الوعي والحقل اللاشعوريّ معاً، وتَحُضُّ على اللجوء إلى عالم الأدب الموازي للواقع، على اعتباره بديلاً مُتصوَّراً مؤقتاً أو واحةً يُسهمان في تحقيق التوازن النفسيّ وفي جعل الحياة مرحلياً أجمل أو على الأقل مُحْتَملة ومُستَساغة أكثر.
هذا ما يتبدّى من زاوية سايكولوجيا الإبداع بصورةٍ عامة، إضافةً إلى عاملٍ هامّ لا يمكن إغفاله يتمثّل بإستنارات العقل من خلال تَكَشُّف المعاني الكُبرى وتلألؤ الأسئلة الوجودية المُلحّة والرؤية عند المُبدعين.
أمّا بشكلٍ ملموس، فيتحدَّث للميادين الثقافية عن تجربته الشخصية ونظْرَته للعزلة القسرية كلٌّ من الشاعر اللبناني نعيم تلحوق والشاعر السوري سامر محمد إسماعيل والشاعر المصري عبدالله السمطي والقاصّ والكاتِب السعودي عبد الجليل الحافظ.
يرى تلحوق أنّ كورونا ليست حَجْراً جسدياً، بل "تُمثّل حَجْراً ذهنياً ونفسياً لأمراضٍ فينا تجتاحنا، وقد بدأت تتكشَّف، إنه دور الكشف لكل ما هو مُزيَّف من حقائق وإرادات وعلاقات".
يلتفت تلحوق إلى التاريخ فيقول إنّ سقراط حين كان في مِحْجَره- السجن أفهَمَنا أنّ للحرية باباً ثالثاً غير الجُدران والنُكران. "إنه يأتي من الداخل- السمّ. هو ذهب ليُرشدنا إلى الحقيقة من أجل الآخرين" على حدّ تعبيره، موضحاً أنّ جائحة "كورونا" جاءت لتكشف خوف أنفسنا على أنفسنا قبل كل شيء من دون اعتراف وإدراك للآخر الذي هو فينا.
الشاعر اللبناني مرتاحٌ مع نفسه لأنه بدَّدَ خوفه بالذهاب إلى الفكر، إلى المُتخيَّل الآخر الذي يبني فيه نشاطه الذهني، مُضيفاً "لعلّ "كورونا" درسٌ لنا، كي نوقِظ مُخيّلتنا ونرسم أفكارنا على قياس المعنى الذي وُجدنا لأجله، لنقهر الخوف والمرض من قلوبنا ونفوسنا وعقولنا".
من جهته، يقول الشاعر والكاتب السوري سامر محمّد إسماعيل إنّ الحَجْر لم يزده إلاّ غضباً، لا سيما أنّ الوقت ليس التلفُّت إلى الساعة ولا غياب الشمس أو شروقها، ليس الليل والنهار، إنما هو العالم المُتخيَّل لكلٍّ منا. الحَجْر يزيد من ذبول الزمن حيث لا يرى سوى ساعات ذابِلة ذائِبة كما في لوحة سلفادور دالي.
يعتقد مؤلّف ديوان "أطلس لأسمائك الحُسنى" أنّه صار لزاماً على الكتابة أن تترنّح بفعل مخاوف الموت. "العالم سُجِنَ في المنازل والشاعر أيضاً يدور في هذا المنحى التراجيدي في ظلّ هذه العزلة القسرية"، كما يقول للميادين الثقافية.
ويُضيف إن "القصيدة تعاني من هذه العزلة". النصّ الذي يطمح إليه هو نصٌّ يحتاج إلى الحياة والضوء. البقاء في المنازل نوعٌ من الهروب.
لقد حاول الشاعر سامر محمّد إسماعيل أن يتجاوز طريقة التفكير هذه نحو كتابةٍ مسرحية جديدة سوف يقوم بإخراجها لصالح المسرح القومي في دمشق.
بموازاة ما يحدث هناك جانبٌ مثمرٌ على الصعيد الشعريّ. على الرغم من الألم المُتأتّي عن تجربة الحَجْر، فإنّ للتجربة أبعاداً جديدة يحتاجها الإنسان، كما يقول الشاعر والناقِد المصري عبدالله السمطي في تصريحٍ للميادين الثقافية، مؤكِّداً أنّ الإيجابية تكمُن في مواجهة الإنسان لمراياه وقَذْف أقنعته بعيداً كي يرى أكثر.
يتبدّى التمعّن الأدبيّ عنده حالياً في إعادة ترتيبه بعض دواوينه الشعرية التي لم تُنشَر بعد، فيما تتجلّى غزارته قراءةً وكتابةً، ومن خلال تفعيل قناته المُهْمَلة في "يوتيوب" منذ 10 سنوات حيث قام بتسجيل 95 حلقة من الشعر العربي القديم والمُعاصِر كمُختارات.
في الوقت عينه، لم يغفل السمطي متابعة أخبار فيروس "كورونا" في العالم مع ما يرافقها من شعورٍ بالحزن العميق في نفسه من جرّاء ما أصاب الشعوب. يبدو مؤلّف ديوان "سرير الحطّاب" نشيطاً في بناء المعرفة الأدبية والنقدية التفاعُلية عبر مواقع التواصل الاجتماعي في فترة الحَجْر.
من جانبه، يؤكّد الأديب والقاصّ السعودي عبد الجليل الحافظ للميادين الثقافية أنّ "الجائحة أعادت إلينا صوابنا وجعلتنا نفكّر بطريقةٍ أخرى، منها أن تكون الأسرة في الداخل في المقام الأوّل". يزرع مؤلّف المجموعة القصصية "عتمة" حُبَّ القراءة في عقول ونفوس أولاده، وعلى الصعيد الشخصي ألزم نفسه برَفْعِ عدد الكتب التي يقرأها في الأسبوع الواحد، وبإنجاز بعض المشاريع الكتابية المؤجّلة لأسبابٍ عديدة.
الحراك الثقافي لم يتوقّف واللقاءات والاجتماعات الثقافية كذلك، وإنْ لم تكن تُعقَد في المقاهي أو الأماكن الخارجية. يقول عبد الجليل الحافظ إنّ "اللقاء أصبح من خلال المنصّات الاجتماعية الافتراضية على الإنترنت من خلال برامج (Zoom) وسواها من البرامج".
ويضيف: "أصبحت هناك لقاءات ثقافية أسبوعية. إلتزمنا بأن نلتقي لمّدة ساعة أسبوعياً نتناقش فيها حول كتاب مُعيّن أو فكرة مُعيّنة ونقرأ بعض النصوص الإبداعية. نعم لقد قلَّ اللقاء الجسدي لكنّ اللقاءات الفكرية ما زالت مُتصلة. هذه الجائحة أعطتنا القدرة على معرفة أنّ مشاكلنا الكُبرى الإنسانية ليست صعبة الحلّ بل إنّ حلَّها بسيطٌ جداً".
في هذا الإطار يعقّب الأديب السعودي مُتسائلاً: "مَن كان يُصدّق أنّ التلوّث البيئي سينخفض في فترة بسيطة ليصبح الهواء صالحاً للتنفّس، ومَن قال إنّ طبقة الأوزون ستتعافى؟".
يتوقّع عبد الجليل الحافظ في الأيام القادمة ظهور أدب ما بعد الأزمة الإنسانية المُتَمحوِر حول هذا الوباء بطريقةٍ مختلفة عمّا صدر من أدبٍ خلال الجوائح والأوبئة في الفترات الماضية، حيث لم يكن عند المُبْدِع مدى الإدراك حول إصابة العالم ككلّ. أما الآن، كما يرى الحافظ، فإن الأدب أصبح شموليّ المعرفة وبالتالي فإنّ الطريقة التي سيتمّ من خلالها تناول هذه الكارثة عالمياً ستكون مختلفة.