لماذا يركعون على ركبة واحدة؟
منذ مقتل جورج فلويد شاهدنا حركة ربما لم نعتد رؤيتها. متظاهرون وسياسيون ورجال شرطة يركعون على ركبة واحدة، فما هي رمزية هذه الحركة؟ وما هي دلالاتها؟
منذ مقتل الأميركي - الأفريقي جورج فلويد، وما تلاه من موجة احتجاجات عنيفة، شاهدنا حركة غريبة لم نعتد رؤيتها. ففي بعض المدن الأميركية، وقف رجال الشرطة أمام المتظاهرين، ثم ركع كل منهم على ركبة واحدة. قوبلت هذه الحركة بتصفيق من المتظاهرين. الأمر نفسه قام به المشاركون في التظاهرات في أكثر من بلد أوروبي، وصولاً إلى رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، فما هي رمزية هذه الحركة؟ وما هي دلالاتها؟
شأنه شأن العديد من الأفعال التي تكتسب مع الوقت تحولاً في مضمونها الرمزي، فإن الجثو أو الركوع على ركبة واحدة بدأ منذ ستينيات القرن الماضي على الأقل. ففعل الركوع، مثلاً، كان يشير إلى مضامين متنوعة، مثل ركوع اللاعبين كشكر للرب أثناء مباراة رياضية، أو ركوع الجنود أثناء استماعهم إلى الضابط أو المدرب احتراماً، أو إيذاناً بانتهاء عمل ما طلباً للراحة، لكن فعل الركوع تطور ليكتسب رمزيته السياسية والاجتماعية، بعد اللجوء إليه لتسليط الضوء على المشاكل العرقية في الولايات المتحدة.
مؤخراً، يبدو أن أول من جثا على ركبته كتعبير سياسي، كان اللاعب السابق في فريق كرة القدم الأميركية كولين كايبرنك. حصل ذلك في العام 2016، عندما ركع أثناء عرض النشيد الوطني، احتجاجاً على وحشية الشرطة تجاه أصحاب البشرة السوداء والملونة.
وفي الوقت الَّذي تعاطف الرئيس السابق باراك أوباما مع كابيرنك، معتبراً أنه "يهتم ببعض القضايا الحقيقية والمشروعة التي يجب التحدث عنها"، تلقَّف ترامب هذا الشكل من الاحتجاج، وقال خلال تجمّع انتخابي إنه يتمنى طرد جميع لاعبي الدوري الوطني لكرة القدم، لكن كلامه حينها قوبل بخطوات أشدّ، إذ قررت بعض فرق كرة القدم عدم المشاركة في الدوري، في حين سمحت فرق أخرى للاعبيها بالاحتجاج بالطريقة نفسها.
وقال كايبرنك حينها، وهو ثمرة زواج ثنائي من لونين مختلفين، في مؤتمر صحافي: "لن أقف متفاخراً بعلم بلد يضطهد السود وذوي البشرة الملونة". وأضاف غير آبه بعواقب حركته الاحتجاجية: "أعرف أنني فعلت الصواب."
When civility leads to death, revolting is the only logical reaction.
— Colin Kaepernick (@Kaepernick7) May 28, 2020
The cries for peace will rain down, and when they do, they will land on deaf ears, because your violence has brought this resistance.
We have the right to fight back!
Rest in Power George Floyd
وعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأن السياسة ليس لها مكان في الرياضة، فقد حذا عدد من اللاعبين حذو كابيرنك، ما تسبب في تحول الاحتجاج إلى فعل مقاومة مباشرة ضد ترامب بعد اعتراضه على هذه المبادرة.
دفع كابيرنك ثمن إيمانه وإصراره على حركته الاحتجاجية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللاعبين الآخرين. بقي كابيرنك خارج الدوري حتى العام 2019 بسبب ما وصفه بتواطؤ مالكي "اتحاد كرة القدم الأميركية".
من الركوع إلى القبضات المرفوعة.. "حياتنا ليست رخيصة"
وكما ركع المتظاهرون على ركبهم، فإن بعضهم قام بحركة تحمل الدلالات السياسية نفسها، إذ رفعوا قبضاتهم عالياً في وجه رجال الشرطة. ولمن لا يعرف تاريخ هذه الحركة، فإنها سابقة على التاريخ النضالي لأصحاب البشرة السوداء في الولايات المتحدة، إذ استخدمتها المجموعات المهمّشة حول العالم.
لقد اكتسبت هذه الحركة شرعيتها من رمزيتها العابرة للحدود والثقافات، بوصفها شكلاً من أشكال المقاومة الجماعية ضد القمع ورفض التمييز على أساس العرق واللون. وعندما تم تأسيس "حزب النمور السود" في العام 1966 لتحدي وحشية الشرطة ضد المجتمع الأميركي - الأفريقي، تم استخدام قبضة القوة السوداء بشكل متكرر كرمز لتحرير السود.
الصور ولقطات الفيديو الخاصة بأعضاء هذا الحزب وهم يحيون بعضهم البعض بقبضات مرفوعة في المؤتمرات والاجتماعات والمسيرات، عززت رمزية هذه الحركة كمرادف للنضال من أجل الحقوق المدنية للأميركيين الأفارقة.
بعد ذلك بسنتين، وفي دورة الألعاب الأولمبية المقامة في مكسيكو سيتي في العام 1968، وضع العدّاءان الأميركيان تومي سميث وجون كارلوس قفازين أسودين ورفعا قبضتيهما قبالة العلم الأميركي، في الوقت الذي بدأ فيه عزف النشيد الوطني خلال حفل تسلّم الميداليات. ورغم تعليق "اللجنة الأولمبية الأميركية" بأنهما "انتهكا المعايير الأساسية للأخلاق والروح الرياضية، التي تحظى بتقدير كبير في الولايات المتحدة"، فإن سميث أعلن في ما بعد أنها "تحية من أجل حقوق الإنسان".
الأمر نفسه شاهده محبو الناشط المناهض للفصل العنصري نيلسون مانديلا، بعد خروجه من المعتقل في العام 1990، إذ وقف إلى جانب زوجته رافعاً قبضة النصر. هذه القبضة تم اللجوء إليها، إما إيماناً برمزيتها، كحال الناشطة النسوية غلوريا ستاينم، وإما بهدف استثمارها سياسياً، كما فعل بيرني ساندرز، أحد المرشحين الديموقراطيين السابقين للانتخابات الرئاسية الأميركية.
كل هذه الردود الرمزية تأتي في وقت تتنامى حركات الاحتجاج ضد العنف القائم على أساس اللون، وخصوصاً تجاه أصحاب البشرة السوداء، ومنها حركة "Black Lives Matter"، التي تسعى إلى الوقوف في وجه العنف والعنصرية المنظمة الموجهة ضد الأميركيين الأفارقة، والتي تأسّست في العام 2013.