بيت نزار قباني..."قارورة عطر دمشقي" للبيع!
وصفه بقارورة عطر.. إليكم حكاية نزار قباني مع بيته الدمشقي ومصير هذا البيت.
في مئذنة الشحم، أحد أحياء دمشق القديمة، منزل أشبه بقارورة عطر تخطف الحواس الخمس لشاعرٍ استوحى مُجمل قصائده من كل نبتةٍ وكائنٍ حيّ فيه. على خلاف كل بقاع المعمورة، فإن للياسمين حقوقاً مُقدّسة في المكان، وللمآذن أرواح كالأشجار. أما القِطط فلها حياتها الخاصة. بيت لا يزال يحتفظ بجذور الإنسان وقلبه ولغته، كأنه متحف مُصغّر صنعه الشاعر الراحل نزار قباني (1923 - 1998) للمرأة ودمشق معاً.
تأثّر وتعلّق قباني بالبيت يظهر جليّاً والذي يدرس شعر وأدب الراحل يلاحظ ألا قصيدة تخلو من ذِكر البيت الدمشقي.
البداية.. الأمّ والبيت
ولِدَ نزار قباني في منطقة مئذنة الشحم في دمشق القديمة عام 1923 ، والده توفيق بائع سكاكر (ملبّس) في منطقة البزورية، أما جدّه لأبيه فتوفيق القباني أحد روّاد المسرح العربي السوري، ووالدته فائِزة أقبيق ابنة العائلة الدمشقية العريقة.
طوال مسيرته الشعرية يظهر أن قباني استند مُرْتكزين أساسيين هما الأمّ والبيت. فقد كان بحسب ما قاله مُستشار وزير السياحة علي المبيّض للميادين الثقافية، يُسْقِط والدته على صفات المرأة "التي كان يحبّها وهذا يعكس مدى تعلّقه بها"، كما جاء في إحدى قصائده التي يقول فيها "عرفت نساء أوروبا.. عرفت عواطف الإسمنت والخشب.. عرفت حضارة التعب.. وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر.. ولم أعثر.. على امرأة تمشّط شعري الأشقر" .
أما المُرْتكَز الثاني فكان البيت الذي تربّى فيه قباني إذ يقول "هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة"، وقال أيضاً "لا بدّ من العودة مرة أخرى إلى الحديث عن دار مئذنة الشحم لأنها المفتاح إلى شعري والمدخل الصحيح إليه، وبغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مُكْتَمِلة ومُنْتَزَعة من إطارها".
يُشيد المبيّض بغرق قباني الدقيق والمُفصّل في وصف مسقط رأسه، حتى أنه لم ينس تناول القِطط في كتاباته النثرية. فقد كتب مرة "القِطط الشامية النظيفة المُمتلئة صحةً ونضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها ورومانتيكيتها بحرية مُطلقة، وحين تعود بعد هَجْر الحبيب ومعها قطيع من صغارها ستجد مَن يستقبلها ويُطْعمها ويُكَفْكِف دموعها".
يروي مُستشار وزير السياحة السوري أن نزار قباني لم يغفل عن ذِكر بيته حين خاطب والدته ذات مرة بقصيدةٍ جميلةٍ من مدريد بعنوان "خمس رسائل إلى أمّي"، يقول فيها "صباح الخير من مدريد.. ما أخبارها الفلّة؟ بها أوصيك يا أمّاه.. تلك الطفلة الطفلة.. فقد كانت أحب حبيبة لأبي.. يدلّلها كطفلته.. ويدعوها إلى فنجان قهوته.. ويسقيها.. ويطعمها.. ويغمرها برحمته".
ويعقّب المبيّض على ربط قباني الفلّ برسائله إلى والدته أن "تصويره لنبتة الفلّة الموجودة في بيته القديم، يعكس علاقة تبادُلية وعاطفية وثيقة.. شاعر يتحدَّث إلى والدته وهو على بُعد آلاف الكيلومترات ومع ذلك يسألها عن الفلّة".
علاقة نزار بمكان ولادته كانت قائمة دائماً، ويُقال إنه ذات مرة، أدخل نزار يده إلى جيبه ليخرج مفتاح شقّته في مدريد، فأخرج بدلاً منه مفتاح منزله في دمشق القديمة.
بقيَ الشاعر الدمشقي يتردَّد إلى منزل العائلة الذي تمّ بيعه، خاصةً عندما يأتي لزيارة قبر إبنه توفيق المدفون في مقبرة الباب الصغير. كما زاره في التسعينات قبيل وفاته جالِساً عند طرف البحرة، حيث دعاه صاحب البيت الجديد "تفضّل. أجلس في الداخل"، فردّ قباني "جئت لأقعد فقط على طرف البحرة"، وشرب فنجان قهوة.
وبينما هو على هذه الحال حتى تقدّمت منه إحدى القِطط واستقرّت في حضنه.. فقال نزار "ربما عرفت أنني كنت من سكان هذا البيت".
حياة متخمة بالخسارة
تزوَّج نزار قباني مرتين. الأولى من إبنة خالته زهراء آقبيق وله منها ولدان هما هدباء وتوفيق، والثانية العراقية بلقيس الراوي وأنجب منها ولدين هما زينب وعمر.
وفاة توفيق، عام 1973 أثّرت في نفسيّته ورثاه وقتها بقصيدة "الأمير الخُرافي ." توالت المصائب عليه ففُجِعَ بمقتل زوجته بلقيس في حادث تفجير السفارة العراقية في بيروت ، ونعاها بقصيدة مُتّهماً العرب بأنهم دبّروا مقتل هذه "النخلة العربية" كما كان يصفها، وعَزَفَ بعد مقتل بلقيس عن الزواج نهائياً.
أما في العام 1967 فقد أحدثت نكسة حزيران مُنعطفاً هاماً في مسيرته الشخصية والشعرية، إذ انصرف عن الحب إلى الشعر السياسي، مُنتقداً حينئذ تصرّفات الأنظمة التي أوصلت الشعوب العربية إلى الهزيمة.
"قارورة العطر الدمشقي".. للبيع
محمّد نظام، صاحب المنزل الذي نشأ فيه نزار قباني يؤكِّد للميادين الثقافية أن جدّه عباس اشتراه من والد نزار عام 1968، مُقدّراً عُمر "قارورة العطر" بما يتراوح بين 400 و 500 سنة.
وأوضح نظام أن البيت بقي على حاله، خاصة أشجار الياسمين والكباد والليمون والنارنج، التي كان نزار يتحدث عنها. أما بالنسبة للتحديثات والتجديدات التي طرأت على المنزل فيقول نظام إنها لم تمسّ روحه، حيث أن "القاعدة الأساسية للمنزل ظلّت كما هي، فالبيت العربي الدمشقي لا يتغيّر، لكن أحدثنا تعديلات في الطابق العلوي، حيث أنشأنا أكثر من غرفة فيه ووضعنا مصعداً وهذا التحديث الوحيد فيه، بينما المدخل والليوان والغرف اليمينية واليسارية لم يطرأ عليها أيّ تعديل".
ويتألّف البيت من باحة الدار والبحرة والفسحة السماوية والقاعة الصدفية الموجودة بداية مدخل المنزل من جهة اليسار، كما يضمّ أيضاً الليوان حيث توجد غرفة يمينية وأخرى يسارية وفوقهما غرفتان كذلك. ويضمّ المنزل حالياً 11 غرفة، في حين كان قبل التجديد، أي عام 1992، يحتوي على 6 غرف.
أما عن مقتنيات نزار قباني فيؤكِد نظام أنه لم يكن هناك أيّ شيء منها عندما اشترى جدّه البيت، موضحاً أن شقيق نزار (صباح) وأخته كانا يزوران المنزل بشكلٍ مُنْتَظِم، كما زاره مسؤولون وشخصيات سوريّة بارزة.
وافتتحت وزارتا السياحة والثقافة المنزل ووثّقته عام 2015 بعد أن كان هناك اختلاط بينه وبين منزل آخر يبعد عنه حوالى 15 متراً يعود أيضاً لعائلة القباني، حيث اعتبروا المنزل مكاناً سياحياً وثقافياً لشخصيةٍ معروفةٍ، لكنه يبقى مسكناً له ملكية خاصة.
لا يخفي نظام سعادته كلما تذكر اليوم الذي اجتمع فيه بنزار قباني في (ليوان) المنزل قبل وفاته بعدّة سنوات، حيث أخذ الأخير يتمعّن بالأشياء التي كان يتغزّل بها في أشعاره كالبحرة وشجرة اللباد.
تعرض عائلة نظام بيت نزار قباني للبيع، ويقول محمد "أتمنّى أن يشتريه شخص قادر على الاهتمام به، ويشعر بالقيمة المعنوية الموجودة في المنزل، فنحن لا نشتري جدراناً بل ثقافة".
وسواء بيع البيت مرة أخرى أم لا، فإن نزار قباني يرقد غير بعيد منه، في مقبرة الباب الصغير في دمشق. تلك المدينة التي أوصى أن يدفن فيها قائلاً: "دمشق هي الرحم الذي علّمني الشعر والإبداع، وأهداني أبجدية الياسمين".