بوشكين في الحجر الصحي
لسنا أول من يعيش العزل الصحي. أدباء عالميون أضطروا إلى ذلك قبل قرون، ومنهم شاعر روسيا الأكبر ألكسندر بوشكين. فكيف وصف حاله وقتها؟ وماذا كتب لنا ولحبيبته ناتاليا؟
يصعب أن نتخيّل، ونحن في أجواء العزل والحَجْر الصحيين اليوم، ما كان لهما من فضل على شاعر روسيا الأكبر ألكسندر سيرغيفيتش بوشكين (1799-1837)، وعلى الأدب الروسي بشكل عام.
فالفصل الذي قضاه في بلدة "بولشويِ بولدينو"، عام 1830، أثناء الحَجْر الصحي من وباء الكوليرا، والذي عُرِف بـ"خريف بولدينو"، كان الفترة الأكثر إنتاجاً في حياة بوشكين الإبداعية. آنذاك أنهى بوشكين بشكل شبه تام العمل على روايته الشعرية "يفغيني أونيغين"، "قصص بيلكين" (أو حكايات الراحل إيفان بيتروفيتش بيلكين، وهي أول عمل نثري مُكتَمِل لبوشكين)، "التراجيديات الصغيرة" (مجموعة من المسرحيات المأسوية القصيرة)، ومسرحيته الشعرية الكوميدية "بيت في كولومنا"، بالإضافة إلى 32 قصيدة غنائية.
لم تكن فترات الحَجْر الصحي في روسيا القيصرية قليلة أو قصيرة، وإذا لم يكن بوشكين خائفاً من وصول العدوى إليه فـ "النبلاء لا يموتون بسببها أبداً، كما قالت الفتاة اليونانية"، إلا أن صاحب "مصيبة العقل" ألكسندر سيرغيفيتش غريبويدوف (1795-1829)، لم يكن كذلك في عشرينيات ذلك القرن.
فقد كان مُحاطاً في الشرق بالطاعون والكوليرا والتيفوئيد، وكانت هذه الأمراض تهدّد حياته بعدما حصدت أصدقاءه واحداً تلو الآخر.
وإذا كان الحَجْر الصحي مرحلة إبداعية للبعض يحاول أن يستغلها في الإنتاج النثري والشعري والموسيقي، فإنها مأساة بالنسبة إلى البعض الآخر، كالشاعر فيودور إيفانوفيتش تيوتشيف (1803-1873)، الذي تجاهل هذه الفترة في قصائده، فقد حرمه الحَجْر من الترفيه في مدينة ميونخ الألمانية، أو كالكاتب والناقد إيفان ألكسندروفيتش غونتشاروف (1812-1891)، الذي حظي بالاستحمام مرة واحدة في غرافية بولون، شمال فرنسا.
وحده أنطون بافلوفيتش تشيخوف (1860-1904) كان عليه أن يعمل بين الناس خلال فترات الحَجْر الصحي، فقد كان طبيباً.
خشبة الأمل
ربما يعود الفضل في وفرة إبداع بوشكين في تلك الفترة القاسية من حياة روسيا، إلى أنه كان يتمسّك بالأمل خشبة للخلاص، وكان يسلّي نفسه أثناء العزلة القسرية بمراسلة خطيبته الشابة وزوجته المستقبلية ناتاليا نيقولايفنا غونتشاروفا (1812-1863)، فقد أدّى الحَجْر الصحي إلى تأجيل عرسهما لمدة ستة أشهر.
هو الحب الذي ألهب مشاعره، ودفعه باتجاه الكتابة نظماً ونثراً. لم يختزن مشاعر سوداوية، بل كان يبثّها مصحوبة بالحنين ووطأة الابتعاد عن الحياة العامة في رسائله. ومنها، رسالة مُسطّرة في بولدينو بتاريخ 11 تشرين الأول/ أكتوبر 1830، يقول: "لا طريق إلى موسكو، أنا هنا مسجون في بولدينو، بحقّ السماء يا ناتاليا نيقولايفنا راسليني، حتى لو لم ترغبي بذلك. أخبريني أين أنت؟ هل غادرتِ موسكو؟ هل من طريق يقودني إلى قدميك؟ لقد تحطّمت نفسيتي، وأنا حقًا لا أعرف ما العمل. من الواضح أن زواجنا لن يتمّ في هذه السنة، كما لو أنها سنة ملعونة. أتراكِ تركتِ موسكو؟ إنه أمر لا يغتفر أن تعرّضي نفسك لخطر العدوى طوعاً. أعلم أنّهم يبالغون دائماً في تصوير الكارثة وأعداد ضحاياها. أخبرتني شابة من القسطنطينية ذات مرّة أن العوام فقط هم مَن يموتون بالطاعون، حسناً، لكن يجب على النبلاء اتخاذ الاحتياطات، لأن ذلك هو ما ينقذ أرواحهم، وليس مستواهم الاجتماعي أو فصاحتهم. إذن، أنت في القرية، في مأمن من الكوليرا، أليس كذلك؟ أرسلي إليّ عنوانك وخبّريني عن صحتك. هنا، نحن في حَجْرٍ صحي تام، والعدوى لم تخترقنا بعد. بولدينو كأنها جزيرة مُحاطة بالمنحدرات الصخرية. لا جيران لديّ هنا ولا كتب. الطقس رهيب. أقضي وقتي بالعَبَث بالأوراق والغضب. لا أعرف ما الذي يحدث في العالم... لأنني لا أقرأ الصحف هنا. أراني أغدو غبياً، إن هذا رائع ببساطة".
كان ألكسندر سيرغييفيتش غيوراً، لكن ناتاليا نيقولايفنا لم تقلّ غيرة عنه، وكانت تعاقبه بقلّة رسائلها لظنّها أنه كان يقضي وقته برفقة الأميرة ناتاليا بتروفنا غوليتسينا (1744-1837)، في بلدة نيجين الأوكرانية، فقد شكت في أنّه في بولدينو التابعة لمقاطعة نيجغورود الروسية.
وكانت الأميرة غوليتسينا واسعة الحيلة، وتُعرَف في الأوساط الضيّقة بـ"الساحرة ذات الشاربين". ومن المعروف أنّها الشخصية الرئيسة في مسرحية بوشكين "بنت البستوني"، التي فرغ من كتابتها سنة 1833.
بعد نحو شهرين من الرسالة الأولى، في 2 كانون الأول/ ديسمبر 1830، يكتب بوشكين من جديد ليقول: "من غير المُجدي إرسال عَرَبة إليّ لتقلّني، فقد كانت معلوماتي مغلوطة. أنا في الحَجْر الصحي، ومن المُحتمل أن أكون أسيره لأسبوعين آخرين، وبعد ذلك آمل أن أكون عند قدميك. راسليني، أتوسّل إليك، من محجر بلاتافسكي الصحي. أخشى أن أغضبك، لكنك ستغفرين لي لو علمت بحجم المشاكل التي أواجهها هنا جرّاء هذا الوباء. في تلك اللحظة، التي قرّرت فيها المغادرة في بداية تشرين الأول/ أكتوبر، تم تعييني ناظراً على المنطقة. هو منصب كنت سأقبل به بالتأكيد، لو علمت في الوقت نفسه بأن الكوليرا قد طرقت أبواب موسكو. واجهت صعوبات كبيرة في التملّص من هذا المنصب، ثم أتاني خبر أن موسكو قد عزلت، وحظر الدخول إليها. ثم تابعت محاولاتي المؤسفة لكَسْرِ طوق الحظر عني إذ وردني منك أنك لم تغادري موسكو، كما ذكرت في نهاية رسالتك الأخيرة، فأغرقني ذلك في اليأس. ثم كيف أتتك الشجاعة لتقولي ما قلته؟ كيف سمحت لنفسك بالتفكير في أني عالق في نيجين بسبب هذه الأميرة غوليتسينا الملعونة؟ أتعرفين الأميرة غاليتسينا؟ إنها سمينة جداً، فلو جمعت كل أفراد عائلتك معاً، وأضفتني إليهم، لبتنا في حجمها. حقاً، يمكنني أن أكون قاسياً في حديثي، ولكن في الواقع ها أنا ذا في الحجر الصحي، وفي هذه اللحظة لا أتمنّى أكثر مما هو موجود. انظري إلى ما آلت إليه أحوالنا، ها نحن سُعداء بأنهم عزلونا لأسبوعين في كوخ قذر، وكل ما نحصل عليه هو الخبز والماء!".