نرجس عثمان.. فنانة بلا شهادة جامعية
"إما أن أقبل بأنني إنسانة مريضة، أو أن أصل إلى ما أريده".. إليكم حكاية نرجس التي تعلمنا كيف تكون الحياة.
تُعدّ المدرسةُ امتداداً لدور الأسرة في تربية الطفل وتنشئته، لكن أن تنجح في تعلّم القراءة والكتابة من دونها فهذا يعني أنك تمتلك الإرادة والقوّة للتعلّم، والأهم، الكثير من الشغف. بهذه الكلمات بدأت نرجس عثمان حديثها للميادين الثقافية.
بين كفرسوسة في دمشق وبين ريف اللاذقية، تنقّلت نرجس لتكمل سنوات عُمرها الخمسين. عُمر لم يكن عليها سهلاً. الشَلَل الذي صاحبها منذ الولادة، منعها من مُرافقة الأطفال إلى مقاعد الدراسة فبقيت أسيرة جدران المنزل. لكن أمنية الذهاب إلى المدرسة ولو على كرسي مُدوَلب، لم تغادر روحها.
خوف أهلها عليها دفعهم إلى منعها من الالتحاق بأقرانها، لكن نرجس المولودة في عائلة متواضِعة خلقت لنفسها حيّزاً لتطلق العنان لرغباتها، فقرَّرت تعلّم القراءة والكتابة بمفردها. وهي الآن تتذكّر تلك السنوات التي خلت قائلة: "استمدّيت القوّة من التجربة لأنها تعطي صقلاً داخلياً.. وأيضاً من تعاملي مع الحياة بشكلٍ طبيعي ومن محبّتي للأشياء المحيطة وللألوان، فضلاً عن إيماني بأنني أمتلك فسحةً بيضاءَ في داخلي رغم كل الظروف".
هذه الفسحة صارت فسحات بيضاء ملأتها نرجس عثمان بالرسوم والألوان والكتابة والشعر الغنائي الذي تحفظه بحبٍ جمّ. بلغت اليوم الخمسين ولا تزال الألوان والريشة أعزّ أصدقائها ولديها في أرشيفها عشرات اللوحات الفنية والأيقونات الدينية.
تقول إنها لم تختر الرسم، ثم تُفصِح أن "الرسم هو من اختارني. إنه موجود في داخلي. اكتسبته عبر أهلي، فأبي كان رسَّاماً وخطَّاطاً وأخوتي كذلك، لكني لا أعتبر نفسي فنانة مُثقّفة أكاديمياً إلا أنني أرسم بالمشاعر والأحاسيس".
منذ طفولتها تعلَّمت نرجس الرسم بشكلٍ ذاتي عبر تقنية الخطوط البيانية وأصبحت تُبدِع بلوحاتها. تحب رسم البورتريه لأنه، كما ترى، يلتقي مع الذات الإنسانية. بالإضافة إلى الرسم التشكيلي، الذي تستخدم فيه جميع الألوان، فإنها تستعمل أقلام الفحم والرصاص.
مرّت المرأة التي تسكن بيتاً ريفياً مُحاطاً بالأخضر بمراحل كثيرة أضاعت فيها بوصلتها، ومردّ ذلك إلى تشتّت أفكارها ما بين حبّها للرسم وتعلّقها بالموسيقى وضرورة متابعة تحصيلها العِلمي الذي سيُساعدها يوماً ما على تحقيق طموحها، في الوصول إلى وظيفةٍ تساعدها في تحمّل التكاليف المادية للشيخوخة .
"في كل مرة كنت استجمع قواي وأعود إلى الدراسة ليقيني أنها الداعِم الأساس بالنسبة إلى حصولي على وظيفة ضمن مؤسَّسات الدولة"، تتحدَّث نرجس مُضيفة أن الشهادة التعليمية "ستكون سلاحاً قوياً بين يدي تساعدني على مصاعب الحياة وبها أصل إلى طموحي في دخول كلية الفنون الجميلة".
لم يخبُ هذا الطموح فقرَّرت نرجس استكمال دراستها بمفردها وهي في سن الأربعين، حتى تمكَّنت من الحصول على الشهادة الإعدادية وما زال حلمها حيّاً. وتكشف أن والدتها راسلت مديرية التربية في اللاذقية التي تعاونت وقدَّرت وضعها الصحّي، فزوَّدتها بالكتب المدرسية للصف الخامس الإبتدائي.
حتى أنها تتذكّر جيداً ذلك الإحساس الذي لا تصفه بأقل من "شعور غريب وجميل مُحاط بالهيبة"، عندما دخلت قاعة الامتحان للمرة الأولى، "شاهدت الصفوف والمقاعد الدراسية والسبّورة أول مرة. لم أكن أعرفها إلا من أحاديث أخوتي عنها أو ومشاهدتها على التلفاز".
اكتسبت نرجس حبّها للغة العربية من التلفاز، الذي مكَّنها بعد محاولاتٍ مُتكرِّرة من رسم الحروف، فقد "كنت أشاهد وأصغي للتلفاز باستمرارٍ وأحب اللغة العربية كثيراً ومن خلالها أصبحت أفكِّر بترتيب الحروف وكيف تُكتَب وصرت أمرِّن نفسي على كتابتها، حتى نجحت في تعلّم أغلبها. أخوتي ساعدوني أيضاً، وبعدها حصلت على تشجيع أسرتي لأثابر على هذا الشيء وأصبح أبي يُعلّمني الطريقة الصحيحة لكتابتها، في وقتها لم أكن أمتلك الرغبة في التعلّم ضمن المنزل لرغبتي بالذهاب إلى المدرسة".
بين الشعر والشعر الغنائي كان للسيِّدة فيروز وأغانيها بصمتها النوعية في حياة نرجس التي حفظت وكرَّرت مقاطعها، ما دفعها إلى محاولاتٍ مستمرة لكتابتها حتى نجحت في ذلك. وتُحدِّثنا عن هذا التفصيل قائلة إنها "كل يوم كنت أتعلّم شيئاً جديداً حتى وصلت إلى مرحلة كتابة الأحرف والقصائد والشعر الغنائي، ومن خلال هذا الشغف أصبحتُ أبحث عن ذاتي وكيفيّة التعلّم وأزوِّد نفسي بالمجلات الفنية لأتمكَّن من قراءتها". لكنها قبل ذلك، ومنذ الطفولة إلى المراهقة، كان للأدب الروسي والفرنسي قصة صداقة مستمرة معها.
تعلم نرجس جيّداً بأن الشهادات العلمية هي الحل الوحيد لخلاصها من ظروفها الصعبة وانتصارها على المرض، فمن خلالها ستصل إلى ما تريد: "إما أن أقبل بأنني إنسانة مريضة، أو أن أصل إلى ما أريده بالرغم من مرضي".