أيمن بيطار.. "عاشق القديسين" يعيد الحياة إلى كنائس سوريا
عاد إلى بلاده مكتسباً عِلماً وموهبة ما زال يصقلها، وأخذ يترميم الأيقونات الكنَسية التي دمّرتها الحرب في سوريا.
السيّدة مريم العذراء كانت أولى رسوماته. منذ كان أهله يصطحبونه إلى الصلاة في الكنيسة، أصابه ما يصيب مصلّين من خشوع. كان يراهم مشدودين إلى الأيقونات ورسوم القدّيسين. صار مثلهم. تعلّق بها ليكتشف رمزيّتها، ثم تأثيرها الكبير على مسيرته المستقبلية. هكذا، شقّ السوري أيمن بيطار طريقه إلى فنّ رسم وترميم الأيقونات.
يفتتح بيطار حديثه بجملة تكاد تختصر مسيرته "منذ الصِغر بدأ عشقي لرسم القدّيسين". هكذا قال للميادين الثقافية، وهو يُطلعنا على رحلته التي بدأها منذ أكثر من عقدين.
فبيطار المولود في حمص والذي عمل مدرّساً رياضياً، غيّرت منحة دراسية إلى جامعة اليونان حصل عليها عام 1988 حياته. حينها قدّمت له مطرانية حمص منحة لدراسة الفن البيزنطي ورسم الأيقونات.
"أرسلني مطران حمص أليكسي عبد الكريم إلى اليونان للتخصّص، وصلت مع 5 أشخاص إلى وزارة الخارجية اليونانية، لنُخيّر عندها بإمكانية تغيير الاختصاص إلى أيّ اختصاص نريد بما فيه الطب والهندسة، وهذا ما فعله مَن كانوا معي، إلا أنني أصررت على دراسة رسم الأيقونات. لم تغرني الشهادات بقدر ما غلّف قلبي العشق الإلهي لأبدية الأيقونة وبقاء ذِكرها مستمراً على مدى الأجيال".
بين الجامعة الحكومية والجامعة الخاصة في أثينا، تنقّل بيطار بهدف الحصول على أكبر قدر من العِلم. بدأ العمل في كنائس أثينا بمساعدة أستاذه الذي يعدّ من أهم المُتمرسين بالفن البيزنطي ورسم الأيقونات، حيث "أمضيت 5 سنوات من العمل في كنائس اليونان مع أستاذي كانت كفيلة باكتسابي الخبرة الجيدة، ووصلت إلى مرحلة من الخبرة سمحت لي ببدء العمل بمفردي وكان ذلك في أثينا"، ويضيف بيطار"كل تلميذ كاتب أيقونة يحتاج إلى معلّم ليتتلمذ على يده".
عاد بيطار إلى بلاده مكتسباً عِلماً وموهبة ما زال يصقلها حتى اليوم، حيث أخذ بإحياء ما دمّرته الحرب في سوريا، فشرع في ترميم الأيقونات الكنَسية الجدارية منها والمنقولة بطلب من بعض رؤساء الكنائس السورية.
لم يغلّب بيطار عواطفه الدينية لناحية ارتباطه بالأيقونات. ففي المحصّلة، ما يقوم به هو عِلم وفنّ. ولذلك فإنه يركّز على المعايير والمتطلّبات الفنية في رسم أية أيقونة، كما يقول "لأنها تحتاج إلى الموهبة المغلّفة بالفن، ولأن الحب والإيمان وحدهما لا يكفيان. فالفنان عليه أن ينمّي موهبته بالعِلم والدراسة للوصول إلى إنجاز أيقونة خالية من الأخطاء".
لم تختلف صناعة ورسم الأيقونات قديماً عما هي اليوم. الفروقات قليلة، وغالباً منشأها هو تطوّر الأدوات المستخدَمة في إنجازها. حيث أن رسم المخطط يبقى الأساس في كتابة الأيقونة. وهنا يشرح لنا إبن حمص كيف كانت تُصنع الأيقونات قديماً فيقول "كانوا يحضرون الخشب الطبيعي ويضعون لها الدعامات من الخلف منعاً لانحنائها، ثم يطلونها بمادة تحميها من التسوّس، ثم يضعون على كامل الخشبة قطعة من الشاش. كانوا يستخدمون الغراء الأحمر المُستخرَج من عظام الأرنب، فيشكّلون أول طبقة من الغراء الأحمر والزنك والسبيداج، ثم يعيدون التأسيس بعد جفاف الطبقة ثماني مرات حتى تغطّى قطعة القماش بالكامل. هنا تأتي مرحلة التنعيم التي تحتاج إلى وقت طويل حتى تصبح كالمرآة. بعدها، يبدأ الرسّام بوضع مخطّط الأيقونة والذي لا يمتلك فيه خيارات ولا يمكنه الاجتهاد الشخصي، بل يعتمد على مراجع دينية قديمة كما رسمها الأقدمون، وعليه أن ينقلها حرفياً من دون أيّ تعديل. ويعدّ المخطط المرحلة الأولى والأهم في مراحل رسم الأيقونة، فإذا كان المخطّط صحيحاً فإن الأيقونة ستكون صحيحة".
أما عن مرحلة الألوان فيقول بيطار إنها "تعتمد أيضاً على المراجع القديمة وضمن المخطّط الموضوع، ويستخدم في رسم الأيقونه 11 لوناً من دون زيادة بشكل مُطابق لتلك الموجودة في الأيقونة القديمة التي يتم النقل عنها، وهنا تكمن مهارة وحرفية رسّام الأيقونة بخلط الألوان ومزجها واستخدام تقنيات الريشة والظل واللون".
رغم حصول بيطار على العديد من فُرَص العمل خارج سوريا، ومنها اليونان والولايات المتحدة إلا أنه فضّل العودة إلى بلاده والعمل في كنائسها. إذ يربطه بها رباط روحي "يبقى خالداً في روح الإنسان ويحمله معه من المهد إلى اللحد، خصوصاً ذكريات الطفولة".
فضلاً عن ذلك يرى بيطار أن سوريا "في حاجة إلى هذا الفن، لتبقى أيقونات كنائسها حيّة لا تموت. لذلك وجب ترميم ما تهدّم منها بفعل الحرب وتجديد بعضها، وهذا ما فعلناه في كنيسة الــــ 40 شهيداً للروم الأرثوذكس في حمص بطلب من مطرانها جورج أبو زخم".
هكذا عمل بيطار على إعادة ترميم أيقونات هذه الكنيسة وإعادة رسم بعضها بالكامل، وكذلك الأمر مع كنيسة "سيّدة السلام" للروم الكاثوليك في ريف حمص التي استغرق العمل لإعادة الحياة إلى أيقوناتها 7 سنوات متواصلة، وهو يمارس الجهد نفسه اليوم في كنيسة القدّيس جاورجيوس في حماه.
بين كنيسة حماة ومرسمه يتنقّل الرسّام السوري أيمن بيطار لينتهي مؤخراً من أيقونة "العنصرة" والتي يعرّفنا إلى مضمونها قائلاً إنها "حلول الروح القدس على التلاميذ الــ 12 مبشّرة بولادة الكنيسة التي تعدّ أهم حدث في الكون، والتي هي جسد السيّد المسيح السرّي ".
يمنح بيطار كل أيقونة بعضاً من روحه حيث يغلّفها بالكثير من العناية والحب والإيمان، لشعوره بأن كل الأيقونات قريبة من قلبه، لكن ثمّة أيقونة هي الأحبّ إليه إذ سُئِل، وهي أيقونة للقدّيس أنطونيوس الكبير "لأنني أعتبره قدّيساً عظيماً".
عدد كبير من السوريين يمارسون اليوم مهنة رسم الأيقونات، لكن الكثير منهم يفتقرون إلى المزيج الفني الذي تحتاجه كتابة الأيقونة والذي يتكّون من الموهبة والعِلم معاً. هذا الأمر يدفع بيطار إلى المطالبة المتكرّرة للمهتّمين بهذا الفن، بإنشاء نقابة لرسم الأيقونات السورية، يتم عبرها "تبادل الخبرات والتعاون للوصول بالأيقونة السورية نحو العالمية"، كما يقول.
ذلك أن بيطار ورغم مُضيّه لنحو 30 عاماً في عالم رسم وترميم الأيقونات، يؤكّد أن هناك الكثير من المعرفة تنقصه، وعليه فإنه يواظب على الاطّلاع ومتابعة كل ما يستجد من تطوّرات على هذا النوع من الفنون.