"ملك الترسو".. استقبل التعازي بنفسه وترك وصيّته على "كاسيت"
استقبل التعازي بنفسه، وجمهوره حطّم شاشة السينما لإظهاره في شخصية ضعيفة. حياة حافلة أمضاها الفنان فريد شوقي.. تعالوا نعرف عنه أكثر.
في 30 تموز/يوليو 1920 استقبل محمّد عبده شوقي مولوده الأول، فأطلق عليه إسم فريد تيمناً بالزعيم السياسي محمّد فريد (1868 - 1919). لم يتوقَّع الأب أن إبنه فريد شوقي سيصبح أحد وجوه مصر السينمائية الذي يبحث عنه البُسطاء والفقراء في سينمات الدرجة الثالثة (أو سينما الترسو)، فيرون فيه بطلهم الذي ينتصر على خصمه بيدين عاريتين صائحاً في الظلام "يا عدوّي"، ومُستحقّاً عن جدارة لقب "ملك الترسو".
عمل والد فريد شوقي موظفاً حكومياً، لكن محبَّته للقراءة والأدب وكتابة الشعر ولكونه خطيباً بارِعاً، استحق لقب "بلبل الوفد" الذي أطلقه عليه زعيم الأمَّة سعد زغلول. دفع شوقي إبنه إلى الاهتمام بالتمثيل عن غير قَصْد، كما شجَّعه عليه حين عارضه الجميع، وكان يصطحبه كل خميس إلى شارع عماد الدين ليشاهد مسرحيات فرقة يوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلي الكسّار وفاطمة رشدي، ففتن فريد الصغير بهم وبقي التمثيل سحره الذي لم يتخلَّص منه.
أما والدته فعارضت في البداية امتهان إبنها للتمثيل، إلى ذلك اليوم الذي وقف فيه مُقلِّداً حركات يوسف وهبي، فجاءت جارتهم تسأل عن محطة الراديو التي يخرج منها صوت الفنان الكبير. ولما عرفت بحقيقة الأمر جلست مُعجبة بأداء فريد، في حين وقفت الأمّ راضية عما يفعله إبنها لأول مرة، والتي لم تكن الأخيرة. إذ سُرعان ما أشاعت الجارة الحكاية، وأصبح الكثيرون يأتون لمُشاهدته، وصارت الأمّ تسعد بذلك وتنظر إلى ولدها بفخرٍ قبل أن يصبح يوسف وهبي سبيله لانتزاع اعتراف أمّه بموهبته.
"سرق" يوسف وهبي وقبضت عليه الشرطة
في طفولته، استعرض فريد شوقي موهبته في كل مكان. وقف أمام المرآة لساعاتٍ مؤدّياً إيماءاتٍ مختلفة. كان يُقلِّد صوت يوسف وهبي وحركاته المسرحية حتى اعتقدت أمّه أنه جُنّ. شاهده الجيران فحذّروا أبناءهم من اللعب معه مخافة أن يفسد أخلاقهم بتمثيله، لكنه كان يجمع هؤلاء الأطفال سرّاً ويمنح كل منهم "نصف مليم" ليشاهدوا تمثيله ويصفِّقوا له.
لم يكتفِ الطفل فريد شوقي بتقليد "عميد المسرح العربي"، بل سرق أفكاره في تقديم أول عرض مسرحي له. وبعد نجاحه في الشهادة الإبتدائية وقف مع أقرانه في الحديقة الكبيرة أمام العمارة التي يقيمون فيها، ليقدّموا عروضاً مسرحية. ولما عجزوا عن كتابة نصٍّ مسرحي، لم يجد فريد الحلّ إلا في إحضار مسرحيات يوسف وهبي ليسرق منها بعض المشاهد الدرامية المؤثّرة مُدَّعياً أنها من تأليفه، ثم قرأها على أصحابه بعد أن أطلق على النصّ إسم (الفاجعة).
لكن هذا العرض انتهى بالقبض على الممثلة التي أحضروها لتشاركهم البطولة وذلك بعد مشاجرتها مع بعض الرجال أثناء لعب القمار. أما فريد فقد انتقمت منه عدالة السماء، وأنزلته الشرطة من على خشبة المسرح بتهمة السرقة. لكن ليس بسبب نصوص يوسف وهبي، بل لأن أحد جيرانه اتهمه بسرقة الخشب ليدشن به مسرحه الصغير، في حين دافع فريد عن نفسه بأنه استأذن من إبن المدعي.
بقي يوسف وهبي بمثابة الأسطورة بالنسبة إلى فريد شوقي. ففي مذكّراته "ملك الترسو" الصادرة عن "دار ريشة" للكاتبة إريس نظمي، حكى شوقي يوم قابل وهبي في شارع عماد الدين، وأراد أن يلفت انتباهه بأيّ شكل. حينها لم يجد شوقي حلاً إلا أن يمشي بمُحاذاة وهبي ويحتكّ به، فتطلّع الأخير إليه ونهره قائلاً: "إيه يا ولد قلَّة الأدب دي؟". لكن فريد كان سعيداً بذلك، فعميد المسرح خصَّه بكلمة، ولو كانت "شتيمة".
يومها عاد شوقي مُبتهجاً إلى البيت، لكن خبر رسوبه في امتحان السنة النهائية (الدبلوم)، بدَّل فرحته إلى حزن، فانتظر حتى هدأ والده وطلب منه أن يتحدَّث مع يوسف وهبي ليدخله في فرقته المسرحية، فهو لا يريد أن يستكمل تعليمه. لكن والده ثار ورفض. الأمر الذي أمرض فريد حتى ساءت حاله النفسية. هنا لم يجد الأب سوى عودته عن رفضه، لكن بشرط، أن يستكمل فريد تعليمه وينجح.
نجح فريد ونفَّذ والده وعده، فانضمّ إلى فرقة يوسف وهبي مشاركاً في بعض الأدوار البسيطة. ثم بعد شهرين أصدر وهبي قراراً بتعيين شوقي مُحترِفاً بمبلغ 6 جنيهات في الشهر. لكن سعادة الشاب لم تطل، فقرار تعيينه مهندساً في مصلحة الأملاك جعله يحتار ما بين اختيار الوظيفة الحكومية وإرضاء والدته أو الانتصار لموهبته.
ولما اقترح والده أن يجمع بين التمثيل والوظيفة، لم يجده يوسف وهبي مُقترحاً مناسباً، فكثيراً ما تسافر الفرقة لتقديم عروضها في الخارج، ومن ثم، لم يجد فريد أمامه غير أن يترك الفرقة.
فريد شوقي أمام الملك فاروق
ترك فريد شوقي فرقة يوسف وهبي لكنه لم يتخلّ عن حلمه، وبمُجرَّد تأسيس أول معهد تمثيل في مصر عام 1946، وقف مع 3 آلاف طالب أمام "مسرح الأزبكي"، يُداعب خيالهم الأمل في أن يكونوا ضمن 15 طالباً وطالبة ستختارهم اللجنة ليشكّلوا قوام الدفعة الأولى للمعهد.
حينها تقدَّم أحد الهواة إليه وطلب منه أن يشاركه بدور ثانوي مساعد، فوافق، وجاء دور هذا الشاب ليقف أمام اللجنة المُكوَّنة من: جورج أبيض ويوسف وهبي وزكي طليمات وأحمد علام وحسين رياض ومحمّد صلاح الدين باشا، وزير الخارجية في ذلك الوقت، والذي كان رئيس اللجنة، ليشاهدونه ويقيّمونه، لكنهم لم ينتبهوا لصاحب الدور الرئيسي، بل سرق تركيزهم الممثل الثانوي المساعد.
وقف فريد أمام صاحبه يردِّد جملاً حوارية بسيطة، وما إن انتهى حتى سأله صلاح الدين باشا، رئيس اللجنة، عن رقمه في كشوف المُتقدّمين، ليردّ سكرتير المعهد أنه لم يقدِّم ورقه، وقبل أن يشرح فريد موقفه، فوجئ برئيس اللجنة يقول بحسم: "قدِّموا له ورقة حالاً.. لازم يقدِّم.. ولازم ينجح"، وكان بذلك أول مَن عرف نتيجته من بين الثلاثة آلاف المُتقدّمين للامتحان.
في معهد التمثيل حقَّق فريد شوقي انتصارات فنية كبيرة، وحضوراً ملموساً، حتى عندما كاد المعهد يغلق أبوابه لعدم وجود ميزانية، فكّر عميد المعهد ومؤسّسه زكي طليمات في تقديم حفل يحضره الملك فاروق، واختار فريد بطلاً له، فكان له ما أراد، ونجح في كَسْبِ ودّ الملك، ثم بعد ذلك بأيام جاءت الأنباء باعتماد المعهد رسمياً بناء على رغبة ملكية.
بطل في نظر جمهوره وإلا.. تكسير ورصاص!
كان يوسف وهبي وراء احتراف شوقي التمثيل السينمائي. إذ بعد نجاحه في تقديم مسرحية "الجلف" استدعاه هو وفاتن حمامة ومنحه فرصة التمثيل في فيلم "ملاك الرحمة"، وكانت تلك المرة الأولى التي يقف فيها شوقي أمام الكاميرا. وبعد ثلاثة أيام، وهي مدّة تصوير الفيلم، حصل "وحش الشاشة" على شيك بقيمة 90 جنيهاً، كانت أول النقود التي تدخل جيبه من عمل سينمائي.
إلى جانب أعماله المسرحية والتلفزيونية، قدَّم فريد شوقي قرابة 300 فيلم، غيَّر فيها جلده أكثر من مرة، فبدأ بتقديم أدوار الشرّ أمام أنور وجدي وليلى مراد، مُنتقلاً إلى دور البطل المُحارِب للشرّ، وهي الصورة الذهنية التي تعلَّقت بها الجماهير، فبقي بالنسبة إلى البُسطاء رمزاً للقوَّة، وتجسيداً حيّاً للفتى الشعبي الذي يُحطِّم القيود في سبيل استرداد حبيبته من مُختطفيها أو الثأر لها من قاتليها.
لم تكن لدى جمهور شوقي رغبة في تغيير الصورة النمطية للبطولة. ففي العام 1958 وعند عرض فيلم "الفتوّة" في محافظة أسيوط، تضمن مشهداً يتلقى فيه (فريد شوقي) "هريدي" صفعة على قفاه. اعترض الجميع، وتدخّلت إدارة السينما وطالبتهم بالانتظار حتى يثأر "هريدي" لكرامتهم. جلسوا مُنتظرين، لكن سُرعان ما ظهر شوقي في مشهدٍ آخر وهو يقوم بدور الحمار. حينها حطَّم الجمهور الكراسي وضربوا العمال، ووصل الأمر إلى حد إطلاق الرصاص على شاشة العرض.
في العام نفسه تعاون فريد شوقي مع يوسف شاهين في فيلم "باب الحديد"، وتدافعت الجماهير مُتشوّقة لرؤية الفتوَّة وهو يبرح الأشرار ضرباً، لكنهم فوجئوا به خارج صورته النمطية، وأن بطل الفيلم شخص أعرج مُهتزّ نفسياً. لم تمر أكثر من 20 دقيقة على عرض الفيلم حتى ثار الجمهور محطماً الكراسي، وطالب بعضهم باسترداد أموالهم. فشل الفيلم تجارياً على الرغم من نجاحه على المستوى النقدي.
لم يتوقف تأثير فريد شوقي على الوسط الفني. هكذا شكلت بعض أفلامه ترجمة لبعض القرارات والتشريعات، مثل فيلم (حميدو) الذي يتحدث عن تجريم الاتّجار في المُخدّرات، ثم فيلم (رصيف نمرة 5) عندما حاربت الدولة الراشي والمُرتشي. كما شكّلت أفلامه سبباً في تشريع بعض القوانين. فقد أسفر فيلمه (جعلوني مجرماً) في صدور قانون يغفر للمُتّهم سابقته الأولى، كما كان فيلم (كلمة شرف) سبباً في إصدار قانون يُبيح للسجين أن يخرج بعيداً عن سور السجن لمدة 48 ساعة ليلتقي بأهله.
قد يكون للظرف السياسي دوراً في ازدياد شعبية فريد شوقي، فنجوميّته المُتفجِّرة مع قيام ثورة تموز/يوليو 1952، جعلت ثمة تشابهاً بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر.
ففي الوقت الذي رأى فيه المصريون في عبد الناصر بطلاً شعبياً، كان فريد شوقي يجسَّد تلك المعاني على الشاشة، وتلمَّس النظام تلك العلاقة الاستثنائية بين الفنان والجماهير، فاختاره ليُعبِّر عن قضاياه، لا سيما عندما استدعاه عبد الناصر ليُبلّغه أنه اختاره لبطولة فيلم "بورسعيد"، ليبرز دور المقاومة الشعبية في صدّ العدوان الثلاثي عن المدينة الباسِلة.
كما كان لتنوّع مواهب شوقي دوراً في صناعة مكانته الفنية المُتفرِّدة، فقد كتب قرابة 28 فيلماً، من بينها "الأسطى حسن" و"الفتوّة"، وعدداً من المسلسلات التلفزيونية، منها "البخيل وأنا"، الذي حقَّق نجاحاً كبيراً، كما قدَّم عدداً من الأفلام التركية ضمن خطّة لزيادة توزيعها عالمياً.
فريد شوقي يتلقَّى عزاءه بنفسه
لم يحظ فريد شوقي بحياة زوجية مُستقرِّة حيث تزوَّج مرات عدَّة. الأولى من زميلته زينب عبد الهادي وأمّ إبنته منى، والتي انفصل عنها لرفضها تركه الوظيفة الحكومية بعدما انهالات عليه العروض السينمائية. ثم تزوَّج شوقي من الراقصة سنية شوقي وطلَّقها أيضاً لغيرتها الشديدة، لتبدأ بعدها قصة حبّه وزواجه من الفنانة هدى سلطان وأمّ إبنتيه ناهد ومها، والتي اعترف لها بمشاعره أثناء تصوير فيلم "حُكم القوي"، ليشكّلا بعدها ثُنائياً ناجحاً، إلى أن وقعت المشاكل بينهما وانفصلا عام 1969.
بعد انفصاله عن هدى سلطان ساءت حالة شوقي النفسية، فداوم على مُعاقرة الخمر وأهمل عمله، لكن سُرعان ما ساقه القدر إلى فتاة جميلة تُدعى سهير ترك فتزوَّجها عام 1970، وعاشت معه حتى وفاته، وأنجب منها إبنتين هما عبير ورانيا. لم يرزق "وحش الشاشة" بذكور وبقي "أبو البنات" أحب الألقاب إلى قلبه.
في حزيران/يونيو 1997، خضع شوقي لجراحة ناجحة في مفصله، وبعد أسبوع من العلاج الطبيعي تحسَّنت حاله، فخرج من المستشفى إلى البيت. لكن في الــ 17 من الشهر نفسه وبينما كان يتابع ما يُذاع على شاشة القناة الأولى المصرية، باحثاً عما فاته من أفلام وبرامج، قطع البثّ فجأة وظهرت المذيعة شيرين الدويك لتتلو على المصريين نبأ هاماً: "موت الفنان الكبير فريد شوقي".
بعد ربع ساعة نقلت الفضائية المصرية ووكالات الأنباء الخبر عن القناة الأولى، وألغت الفضائية فيلم "الصقر" لتعرض بدلاً منه "لا تبكي يا حبيب العمر"، تقديراً لفن شوقي ومواكبة للحَدَث. كما تسابقت الشخصيات العامة إلى نعيه، وأسرعت القنوات التلفزيونية في إعداد تقارير ترصد مسيرته الممتدّة لنصف قرن.
أما الناس في الشارع فتقاذفوا الخبر بينهم ككرة لهب مشتعلة، لا سيما وأنه تزامن مع وفاة الشيخ محمّد متولي الشعراوي، في اليوم نفسه، الأمر الذي تركهم ينسجون الحكايات حول الصدفة التي جمعت بينهما.
تابع فريد شوقي كل ذلك مذهولاً، بينما بناته وقفن حوله باكيات. فقد توفي والدهن - حتى ولو في نبأ كاذب. لكن إبنته رانيا خرجت عن صمتها، وأسرعت في الاتصال بالتلفزيون لتكذيب الخبر. خرجت المذيعة نفسها بعد حوالي الساعة من إذاعة الخبر لتنفي صحته.
عند الساعة الخامسة والنصف مساء ظهر شوقي في برنامج "مساء الخير يا مصر" مطمئناً محبيه، بينما وعد صفوت الشريف، وزير الإعلام آنذاك، بالتحقيق في الأمر. وتبين لاحقاً أن مجهولاً اتصل برئيسة القناة وأبلغها بالخبر فكلّفت المذيعة بإعلانه فوراً، من دون التأكّد من صحّته.
لكن هذا النبأ الكاذب كان فرصة لفريد شوقي ليشهد على ما كان سيُكتَب بعد وفاته وتقدير ومحبة جمهوره له. فما كان منه إلا أن ردّ على مَن نعوه بنفسه وشكر كل مَن جاؤوا للعزاء.
لكن بعد أكثر من سنة على النبأ الكاذب، وتحديداً في 27 تموز/يوليو 1998، أُذيع الخبر المؤكد عن وفاة الفنان فريد شوقي عن عُمر ناهز الـ 78 عاماً، إثر التهاب رئوي حاد.
شُيّع "وحش الشاشة" في مشهد مهيب من مسجد عُمر مكرم في ميدان التحرير، عقب صلاة الظهر، ودُفِن في قبره الخاص في منطقة الإمام الشافعي، بعد أن ترك لبناته الخمس كنزاً ثميناً في غرفة مكتبه. لكنه لم يكن ذهباً أو ياقوتاً، بل وصية بصوته سجَّلها على شريط كاسيت، قال لهن فيها: "نفسي تفضلوا حبايب.. هذه أمنيتي".