كيف نجا الأخطل الكبير؟

نادم الخلفاء والولاة ومدحهم وهجا الأنصار، وبلغ مكانةً لا تقل عن مكانة جرير والفرزدق.. كيف نجا الأخطل الكبير من قطع رأسه؟

  • كيف نجا الأخطل الكبير؟

أذكر كتاب قراءة عربية مدرسي، لعله من الصف السادس أو السابع، فيه قصيدة للشاعر اللبناني بشارة الخوري¹. كان اسمه مكتوباً تحت صورته في هامش الكتاب الأيمن، وتحته لقب بخط أصغر بين مزدوجين "الأخطل الصغير".

"الأخطل الصغير!" هناك "أخطل كبير" إذاً!

أخبرتنا معلمة العربية لاحقاً أنَّ الخوري لقّب بالأخطل الصغير لذهابه مذهب الشاعر الأموي "الأخطل"، ولم تخبرنا من هو الأخطل هذا.

بقي الأمر في بالي حتى وجدت في مكتبة جدي ديواناً صغيراً عليه اسم الأخطل التغلبي، فقلت: "هذا صاحبي". أخذت الديوان وقرأته وأنا غرّ، فلم أفقه منه الكثير، ولكنني عرفت أنه مسيحي عربي، نادم الخلفاء والولاة، ومدح وهجا، ودخل في حرب جرير والفرزدق الإعلامية، والأهم أنه مع كونه على غير دين الدولة، ومع تهتكه ومجونه الذي وصل حد تعريضه بالإسلام وهجائه للأنصار²، بلغ مكانةً لا تقل عن مكانة صاحبيه جرير والفرزدق، فكانوا مثلث الشعر في عصرهم.

وظفت السلطة الأموية الشعر في تلك المرحلة كأداة إعلامية قوية لتثبيت صورتها وترسيخ شرعيتها حيناً، ولإلهاء الناس عن المعارضة أو حط قدر مخالفيها حيناً آخر، وكان الأخطل كصاحبيه، يؤدي وظيفته بما يرضى الأمويين عنه، ولكنه قبل كل ذلك وبعده، كان شاعراً مجيداً حجز مكانه في تاريخ الشعر العربي. 

من هو الأخطل التغلبي؟

هو أبو مالك غياث بن غوث من قبيلة تغلب العربية العريقة التي بقي قسم منها على مسيحيته بعد الإسلام. ولد في عام 640 ميلادي، أي في أواخر سنين خلافة عمر بن الخطاب، ونشأ في دمشق التي أصبحت مركز الدولة الأموية في فترة شبابه، وأصبح شاعرها الرسمي لاحقاً.

يذكر الرواة أنَّ غياثاً حمل لقب الأخطل في صباه خلال زيارة كعب بن جعيل³، وكان شاعر تغلب الأول وقتها، ديار مالك بن جشم، قوم غياث، الذين أكرموه على عادة العرب وأهدوه أغناماً، وهذا ما لم يعجب غياثاً، فأعاد الأغنام إلى مرعاها أمام عيني الضيف، فقال: "إن غلامكم هذا لأخطل"، والأخطل طويل الأذنين، والأخطل الأحمق⁴، وهذه أدل في ذاك الموقف، فغلب على اسمه اللقب، ولكنه لم يفوتها لكعب هذا، فهجاه بأبيات فاحشة بعدها، رغم فارق العمر والتجربة بين الرجلين⁵.

وظّفت السلطة الأموية الشعر كأداة إعلامية قوية لتثبيت صورتها وترسيخ شرعيتها حيناً، ولإلهاء الناس عن المعارضة أو حط قدر مخالفيها حيناً آخر، وكان الأخطل يؤدي وظيفته بما يرضى الأمويين عنه.

من هنا، يبدو لنا الأخطل ذا شخصية قوية، واثقاً بنفسه، معتزاً بما عنده، لا يهاب مقارعة من هم أعلى منه شأناً لإثبات جدارته، ويبدو فيه شيء من طيش الشعراء، سيتجلى في مواقف عديدة لاحقاً، وخصوصاً بعد اتصاله بالأمويين.

نصراني يهجو الأنصار!

قصة هجائه للأنصار، وتخصيص بني النجار منهم، كانت قصّة أول اتصال له بالأمويين، وتحديداً بيزيد بن معاوية الذي كان وقتها ولي عهد أبيه معاوية بن أبي سفيان، أول خلفاء بني أمية، وهي القصة التي كاد الأخطل يخسر فيها لسانه، وربما رأسه كاملاً، إذ ينقل الرواة أن عبد الرحمن بن حسان الأنصاري⁶ شبب برملة بنت معاوية أخت يزيد، فغضب الأخير، وطلب من كعب بن جعيل الذي ذكرنا قصته مع الأخطل، أن يهجو عبد الرحمن وقومه، فخاف كعب، لأن قومه ليسوا إلا أهل يثرب أنصار الرسول (ص). وحين ألح عليه يزيد، قال: "لا أفعلها، ولكن أعرف من يفعلها"، ودله على الأخطل الذي وافق بعد أن طمأنه يزيد إلى أنه سيشفع له عند أبيه الخليفة إذا وصله الخبر، وهجا الأنصار في قصيدة معروفة منها:

ذهبت قريش بالمكارم والعلى
واللؤم تحت عمائم الأنصار 

فذروا المكارم لستم من أهلها
وخذوا مساحيكم بني النجار⁷ 

وصل الخبر إلى معاوية، ودخل عليه من الأنصار من طالبه بلسان النصراني التغلبي، فقال معاوية لكم ذلك، ولكن يزيد تدخل وتشفع له، كما وعد، فعفا عنه الخليفة، ونجا من أول مأزق وضعه فيه طيشه⁸، ومدح يزيد بقصيدة طويلة منها:

وإني غداة استعبرت أم مالك
لراض من السلطان أن يتهددا

ولولا يزيد ابن الملوك وسيبه
تجللت حدباراً من الشر أنكدا

وكم أنقذتني من جرور حبالكم
وخرساء لو يرمى بها الفيل بلدا⁹

أصبح الأخطل نموذج الشاعر الملتزم تماماً بوجهة نظر السلطة الأموية، بناءً على علاقة نفعية بحتة. وبقاؤه على مسيحيته التي لم يكن يمارس شعائرها أصلاً، يعبر عن لامبالاته بالتحزبات والصراعات، إنما هو شاعر يُترزق.

بعد هذه الحادثة، أصبح الأخطل صديقاً مقرباً إلى يزيد، ففتحت له أبواب القصور، وحضر مجالس الملوك بعد مغامرته بكل شيء، ثم اتصل بعبد الملك بن مروان¹⁰ الذي جعله في فترة خلافته الناطق الرسمي باسم الدولة الأموية، وكانت الأوضاع مضطربةً في تلك الفترة، تعصف بها الثورات والفتن والانشقاقات، فأتى كثير من شعر الأخطل على صورة بيانات إعلامية وإعلانية مرتبطة بالسلطة، تؤرخ لانتصاراتها، وتمدح أبطالها، وتكيل الشتائم لأعدائها ومعارضيها.

كما أصبح الأخطل نموذج الشاعر الملتزم تماماً بوجهة نظر السلطة الأموية، بناءً على علاقة نفعية بحتة. وبقاؤه على مسيحيته التي لم يكن يمارس شعائرها أصلاً، يعبر عن لامبالاته بالتحزبات والصراعات، إنما هو شاعر يُترزق.

القصيدة التي تسبّبت بمجزرة!

في بلاط عبد الملك بن مروان، أول تسلمه الخلافة، بدأت أحداث قصة ثانية كادت تطيح رأس الأخطل، على أنها لم تمضِ على خير هذه المرة، فقد أطاحت رؤوساً أخرى، وأججت جولة حرب بين قيس وتغلب.

يذكر الرواة أن بني تغلب كانوا قد قتلوا رجالاً من بني سليم من قيس، وصادف بعدها أن الأخطل قدم على عبد الملك بن مروان يهنئه بالخلافة، فوجد عنده رجلاً يدعى الجحاف من بني سليم أولاء، وكان صحابياً وشاعراً وفارساً معدوداً في الفتاك، فسأله عبد الملك بن مروان إن كان يعرفه، فأجاب الأخطل بطيشه القديم: نعم، هذا الذي أقول فيه:

ألا سائل الجحاف هل هو ثائر
بقتلى أصيبت من سليم وعامر¹¹

وهو يعيّره بسكوته على قتل تغلب لأبناء قبيلته، وأنشد القصيدة كاملة في محضر الملك، والرجل يكاد يتقطع من الغيظ، فلما انتهى الأخطل من قصيدته، خرج الجحاف لا يرى أمامه. وبعد أيام، جمع قومه وهاجموا دياراً لتغلب، فقتلوا من قتلوا من الرجال والنساء، وأسروا في من أسروا الأخطل نفسه، ولم يعرفوه، فأطلقوه يحسبونه عبداً، ونجا مجدداً!¹²

النقائض والتناقضات

هذا التهور والتهتك والتصرف على عكس النمط السائد مع مراعاة عدم كسر الرابطة بينه وبين السلطة التي تحميه وتغنيه، انعكس على شعره، فبدا عزيزاً أنفاً سكيراً متهتكاً شتاماً ذكياً في صوغ الشتيمة، وإن كان دون جرير في ذلك، فقد تهاجيا وأثخنا، ولعل أشهر النقائض بينهما، قصيدة جرير البديعة التي مطلعها:

حي الغداة برامة الأطلالا
حياً تحمل رحله فأحالا¹³

والتي عيرّ فيها جرير الأخطل بقبيلته المسيحية:

قبح الإله وجوه تغلب إنها
هانت علي مراسناً وسبالا 

قبح الإله وجوه تغلب كلما
شبح الحجيج وكبروا إهلالا 

عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد
وبجبرئيل وكذبوا ميكالا 

فرد عليه الأخطل بقصيدة مطلعها:

كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا¹⁴

تفاخر فيها بأجداده الفرسان على أجداد جرير وأطار أباه عن كفة الميزان:

فانعق بضأنك يا جرير فإنما
منتك نفسك في الخلاء ضلالا 

منتك نفسك أن تسامي دارماً
أو أن توازن حاجباً وعقالا 

وإذا وضعت أباك في ميزانهم
قفزت حديدته إليك فشالا 

وهي القصيدة الوحيدة التي اعترف جرير أنّ الأخطل غلبه فيها¹⁵

ولكن النقائض بينه وبين جرير ليست أكثر شعره جرأة ومخالفةً للنمط؛ ففي ديوانه "خمرية"، يعرض فيها بالرسول الكريم ويوم القيامة:

شربنا فمتنا ميتةً جاهليةً
مضى أهلها لم يعرفوا ما محمد

ثلاثة أيام فلما تنبهت
حشاشات أنفاس أتتنا تردد

حيينا حياة لم تكن من قيامة
علينا ولا حشر أتاناه موعد

تموت وتحيي بعد موت وموتها
لذيذ ومحياها ألذ وأمجد¹⁶

ويقول في خمرية أخرى منكراً الصوم وشعائر الإسلام:

لست بصائم رمضان طوعاً
ولست بآكل لحم الأضاحي 

ولست بزاجر عنساً بكور
إلى بطحاء مكة للنجاح 

ولست بقائم كالعير يدعو
لدى الإصباح حي على الفلاح 

ولكني سأشربها شمولاً
وأسجد عند منبلج الصباح¹⁷ 

هنا تتجلى مفارقة أن الأخطل، رغم كونه على غير دين الدولة، ورغم تعريضه بدين الدولة وشعائره، ورغم مجاهرته بشرب الخمر في غير مكان، لم يتعرض لمضايقة فعلية من السلطة الحاكمة، وهي سلطة مسلمة قريبة العهد بالإسلام، فليس عبد الملك بن مروان إلا خامس خلفاء الأمويين، وهذا يدل على أن شكلاً من أشكال التسامح الديني كان سمةً للدولة منذ نشأتها، ولم تعانِ الأقليات الدينية تلك المعاناة، ولكن العنف والقمع وتطيير الرؤوس كان يتم غالباً لأسباب سياسية تتستر أحياناً بحجج دينية، ولنا في الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير مثال.

حب بعد الطلاق

بعيداً من السياسة وصراعاتها، تزوج الأخطل أكثر من امرأة، وهذا يدل على لامبالاته بالقيود الدينية المسيحية، لكن زوجته الأولى أم مالك كانت أشهر نسائه، فقد تحملت معه ضيق العيش أول حياته قبل اتصاله بالأمويين، وبكت يوم وعد معاوية بن أبي سفيان الأنصار بقطع لسانه، فذكرها إذ قال:

وإني غداة استعبرت أم مالك
لراض من السلطان أن يتهددا

ولكنه طلقها لاحقاً لأسباب غير معروفة، وربما كان لحياته الجديدة المتهتكة بعد الجاه والثروة علاقة بهذا الطلاق، ثم تزوج كل منهما، وقيل إنها ظلت تكنّ له الشوق، وكان هذا حاله أيضاً يوم قال:

كلانا على هم يبيت كأنما
بجنبيه من مس الفراش قروح

على زوجها الماضي تنوح وإنني
على زوجتي الأخرى كذاك أنوح¹⁸

ولا يعرف من أولاده إلا مالك الذي به يكنى، وله تنسب عبارة المقارنة الشهيرة "وجدت جريراً يغرف من بحر، والفرزدق ينحت في صخر" في القصة المعروفة.

انتهت حياة الأخطل الحافلة نهايةً عادية جداً، فمات على فراشه عن 70 عاماً بعد كل هذه المغامرات. حياة لا يمكن اختصارها في مقال كهذا، ولكنني حاولت الإضاءة على مشاهد تعين المتتبع، ليحيط ببعض سمات غياث بن غوث الشخصية، وبعض مظاهر العصر المضطرب الذي عاش ولمع نجمه فيه، مطلاً على جانب من علاقة المثقف بالسلطة والمجتمع، في مرحلة تاريخية نحمل كثيراً من الأفكار المغلوطة أو غير الدقيقة عنه. وقد أشرت إلى بعض المصادر لمن أراد الاستزادة، وأختم بأبيات طريفة له يتحدث فيها عن النساء، من قصيدته التي هجا فيها جريراً:

وتغولت لتروعنا جنية
والغانيات يرينك الأهوالا 

يمددن من هفواتهن إلى الصبا
سبباً يصدن به الغواة طوالا 

ما إن رأيت كمكرهن إذا جرى
فينا ولا كحبالهن حبالا 

المهديات لمن هوين مسبةً
والمحسنات لمن قلين مقالا 

يرعين عهدك ما رأينك شاهداً
وإذا مذلت يصرن عنك مذالا 

وإذا وعدنك نائلاً أخلفنه
ووجدت عند عداتهن مطالا 

وإذا دعونك عمهن فإنه
نسب يزيدك عندهن خبالا! 

الهوامش 

¹ بشارة عبد الله الخوري (1885 - 1968)، شاعر لبناني لقّب بالأخطل الصغير وشاعر الصبا والجمال. 

² أهل يثرب الذين ناصروا الرسول في الإسلام، وهم الأوس والخزرج. 

³ كعب بن جعيل التغلبي، شاعر مخضرم شهد الجاهلية والإسلام، وكان شاعر معاوية بن أبي سفيان. 

⁴ معجم المعاني. 

⁵ "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني. 

⁶ عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري (630  - 720 م) تابعي وشاعر، أبوه حسان بن ثابت شاعر الرسول. 

⁷ https://www.aldiwan.net/poem6081.html

⁸ "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني. 

⁹ https://www.aldiwan.net/poem6052.html

¹⁰ عبد الملك بن مروان الأموي القرشي (646 -705 م) الخليفة الخامس من خلفاء بني أمية والمؤسس الثاني للدولة الأموية. 

¹¹ https://www.aldiwan.net/poem6101.html

¹² "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني. 

¹³ https://www.aldiwan.net/poem5968.html

¹⁴ https://www.aldiwan.net/poem6031.html

¹⁵ "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني. 

¹⁶ https://www.aldiwan.net/poem6188.html

¹⁷ https://www.aldiwan.net/poem6204.html

¹⁸ http://islamport.com/w/adb/Web/2848/3044.htm