علي فودة.. "الغجري" الفلسطيني يموت سعيداً
أصيب خلال اجتياح بيروت. عاش يومين قرأ فيهما المراثي التي كتبت فيه ثم مات.. إليكم قصة صاحب "إني اخترتك يا وطني".
"شاعر الرصيف"، "شاعر الصعاليك"، "بائع الصحف"، "الغجري"، "عروة بن الورد الفلسطيني"، "ماياكوفسكي فلسطين"، "الشاعر الشهيد"، كلها ألقاب للشاعر والروائي علي فودة (1946-20 آب/1982)، ورغم كثرتها إلا أنها تبقى قاصرة عن التعريف به.
فقد آثر فودة منذ بواكيره الأدبية أن يكون "فلسطينياً كحدِّ السيف"، رافضاً أن يترك أي مسافة بين كلماته ومواقفه، ولعل في هذه الحقيقة تكمن الكيمياء التي رافقته طوال حياته، فنصبت بينه وبين الآخرين فواصِل من جبال شاهقة، وجعلته يختار "أن يكون وحيداً وسط آلاف الثوار، وغريباً في بلاد قاده إليها رفضه"، فهو شاعر الثورة والحياة وعدم المساومة، كيف لا وهو الذي دعى جميع من حوله أن يتركوه في دولته التي أسماها "لن".
ولد فودة في قرية قنير– حيفا عام 1946م، وهجّر بعد أقل من عامين إلى مخيم جنزور قرب جنين، وبعدها انتقل إلى مخيم نور شمس في طولكرم، وفي سن السابعة فقد أمه.
أكمل تعليمه، ودرس في معهد المعلمين في حوارة ثم في إربد، وعمل مدرساً في "أم عبهرة" مرج الحمام بالقرب من عمّان، ثم غادرها سنة 1976 إلى بغداد، لكن لم يطل مقامه فيها، فانتقل إلى الكويت مدة قصيرة، ثم رحل في العام نفسه إلى بيروت، لينضمّ إلى صفوف المقاومة الفلسطينية، إلى جانب عدد كبير من المثقفين والمبدعين، ممن رأوا أن خلاصهم مرتبطٌ بالمقاومة، ليعيش بيده اليمنى رشاش المقاتلين، وفي الأخرى مجلة "الرصيف" التي أصدرها مع صديقه رسمي أبو علي.
كان يوزّع المجلة على المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين، وفي جميع ترحالاته ظلّ يعتبر المخيم عنواناً للتشرد والمنفى، والذي لن يستطيع أن يكون وطناً، أليس هو القائل "من غيري يا رب الغرباء، تطارده الأشباح... من حيفا، غزة، حتى الشيّاح!"، لذا ظلَّ غريباً تهواه السيدة المدعوة "غربة" كما يشير في إحدى قصائده.
المنفى المتجدد ويتم الأم انعجنا في روحه، حتى باتا علامة فارقة في كل ما كتب، إذ شكل فعل الفقدان لأرضه وأمه معظم معالم كينونته شاعراً، لدرجة غدت كل واحدة منها تحيل إلى الأخرى، وصار اغترابه المستمر شكلاً آخر لافتقاده حنان الأم وحضنها الدافئ.
هكذا تشكَّلت معالم هويته الأدبية عموماً، منذ "صندوق الدنيا" الذي تفرَّج عليه صغيراً أمام باب منزل العائلة، مقايضاً الفرجة بكأس ماء بارد أو رغيف خبز، مروراً بكل صنوف الغربة والحرمان العاطفي والنفسي، هو الذي رفض أن يتزوج لأنه لم يعثر على امرأة تمشط له خلايا دماغه، وتنظم له أحاسيسه، وتضع كل قضية له في خزانة خاصة، داخل خلايا مخه متشابك الأفكار والقضايا والآلام والمعاناة! امرأة تريح له عقله المتعب، وتضعه بين كفيها وتهدهده، كما كانت تربّت أمه ظهره، وتهدهده فينام.
كل ذلك جعل منه "الفلسطيني الطيب" كما جسَّده في رواية بالعنوان ذاته، إلى جانب كونه "الغجري"، وبقية الغجر الودعاء إخوته، لأنهم "الأكثر صدقاً في أزمان الاغتيالات وقنابل النيوترون وسفك دم الشعوب الفقيرة وقنص العصافير"، فها هو يقول: "الغجري هو رمز الطهارة والشجاعة الخارقة والحنين اللانهائي لعالم الحرية المفقود. إنه الفلسطيني المقذوف خارج وطنه، والعربي الذي سلبت حريته، والزنجي الذي حورب ظلماً، وكل إنسان كتبت عليه المكابدة من أجل العدالة والحرية والجمال في كل زمان ومكان".
أي إن كونه فلسطينياً محروماً دفعه لأن يقف في صف الإنسان أينما كان، ولئن كانت باكورته الشعرية استمراراً لما قدّمه شعراء المقاومة مثل محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، مع وضوح في تأثره بصاحب "سجِّل أنا عربي"، إلا أنه لم يلبث أن فرد جناحيه مُغرِّداً خارج سربهم، لدرجة يستغرب فيها النُّقاد الروح المختلفة بين مزاج ديوانه الأول "فلسطيني كحد السيف" (1969) بما يحمله من تأكيد على الهوية والدفاع عن الأرض والحق، وبين ديوانه "قصائد من عيون امرأة" (1973) الذي لا ينبع من التخلي عن سؤال الهوية إلى سؤال الذات والوجدان، بل من روح العدمية والعبث كعنوانين يتجلى فيهما تأثره ببودلير وأزهار شرِّه.
أما مع ثالث دواوينه "عواء الذئب" (1977) فقد تعزز الاختلاف نحو الغنائية والفردانية الواضحة في بناء القصيدة، ولعل ذلك ما دفع الفنان مارسيل خليفة لأن يتواصل مع هادي حاوي وكان مديراً عاماً لصحيفة "النداء" الناطقة بلسان "الحزب الشيوعي اللبناني" آنذاك، من أجل زيارة جهاد صالح ليؤمن لقاءهما مع علي فودة، بعدما وقع اختيار خليفة على نص "إني اخترتك يا وطني حباً وطواعية" ضمن قصيدة "الغضب، الفهد" لغنائها.
أما آخر دواوين فودة "منشورات سرية للعشب" (1982) فجاء تأكيداً على خصوصية نبرته الشعرية، بما فيها من زخم إنساني "امتد إلى أزمان مفتوحة على الذائقة التي تنحاز للإنسان بوصفه القضية الكبرى أيضاً"، وذلك حسبما جاء في مقدمة كتاب "علي فودة.. شاعر الثورة والحياة"، من إعداد ومشاركة الناقدين نضال القاسم، وسليم النجار، إلى جانب 23 شاعراً وناقداً وأكاديمياً أردنياً.
ولعل الغربة المديدة التي وسمت حياة صاحب رواية "أعواد المشانق" (1983) الذي قال عنه الراحل أمجد ناصر بأنه "كان مولعاً بالضحك العالي. يوزع الفوضى والضحكات العارمة. ودوداً وإنسانياً على نحو لا يصدق"، استمرت مفاعيلها حتى استشهاده الذي كان يتوقعه وينتظره.
ومن يتأمل غلاف ديوان "الغجري" (1981) سيلاحِظ بورتريهاً جانبياً للشاعر، وسيلاحظ بقعة الدم النازف من جانب الرأس والفم، كمن أصيب بشظية أو طلقة في رأسه، وكأن تلك الصورة المعبّرة بمثابة نبوءة لمصيره المحزن الذي لم يتأخر كثيراً بعد صدور هذا الديوان.
ففي آب/أغسطس من عام 1982، وفي ذروة اشتداد القصف الإسرائيلي لبيروت من الجو والبر والبحر، كان علي فودة يوزّع جريدته "الرصيف" على المقاتلين في منطقة عين المريسة ببيروت، ثم سقطت قذيفة عليه فأصيب بجروح خطيرة، ليستشهد بعدها بأيام، ويكون من القلائل الذين قرأوا ما كتب فيهم من رثاء قبل موتهم.
فقد أعلن عن استشهاده وهو حي، ووثق الكاتب اللبناني إلياس خوري تلك النهاية الغرائبية لـ"علي" في روايته الشهيرة "باب الشمس"، قائلاً: "أذكر أنه جاء جريحاً إلى المستشفى، جلبوه مع جريح آخر، وكان الدم يغطيهما، الجريح الأول كان شبه ميت، ودمه متجمد على جسده اليابس. لا أعلم من كشف عليه وأعلن وفاته. فتمّ نقله إلى براد المستشفى تمهيداً لدفنه. ثم اكتشفوا أنه حيّ، فنقل على عجل إلى غرفة العناية الفائقة، وهناك اكتشفنا أنه كان شاعراً. الصحف التي صدرت في بيروت أثناء الحصار، نشرت عنه المراثي الطويلة، وعندما استيقظ الشاعر من موته، وقرأ المراثي شعر بسعادة لا توصف. كان وضعه الصحي ميؤوساً منه، فقد أصيب في عموده الفقري وتمزقت رئته اليسرى، لكنه عاش يومين، وهو ما كان كافياً ليقرأ كل ما كتب عنه، قال إنه سعيد، ولم يعد يهمه الموت، فلقد عرف اليوم معنى الحياة، من خلال الحب المصنوع من الكلمات. كان علي – وهذا هو اسمه- الميت السعيد الوحيد الذي رأيت في حياتي كأن كل آلامه امّحت. عاش في سريره وسط أكوام المراثي يومين جميلين، وحين مات، كان كل شيء قد سبق أن كتب عنه، فنشر نعيه الثاني في أسطر قليلة في الصحف".