صيدا: بداياتها عصر الحجر والنحاس وعاصرت كل الشعوب
احتلّت مرتبة متقدّمة في تصنيف المدن الفينيقية، وتوسّعت وانتشرت على المتوسّط نحو شطآن العالم القديم.. تعالوا نتعرف إلى مدينة صيدا اللبنانية.
تحتلّ مدينة صيدا اللبنانية المرتبة الثالثة بين مدن لبنان الحديث من حيث الدور والحجم والتاريخ. لكن صيدا تطعن في التاريخ القديم كإحدى الممالك الفينيقية في الحقبة التي وصفت فيها المدن الفينيقية المنتشرة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط بأنها مدن ممالك، يحكم كل مدينة منها ملك، ولكل منها قوانينها الخاصة.
احتلّت صيدا مرتبة متقدّمة في تصنيف المدن الفينيقية، واشتهرت بالتجارة والصناعة والحرفيّات المحلية، وتوسّعت وانتشرت على المتوسّط نحو شطآن العالم القديم، على غرار بقيّة شقيقاتها المدن الأخرى.
معرفة واقع وتاريخ هذه المدن، ومنها صيدا، تفترض العودة إلى الوثائق والتواريخ، لكن الأساس الحفريات الأثرية التي تقدّم البراهين القاطعة على واقع المدينة وتاريخها، إلا أن التنقيبات في صيدا، وربما في بقيّة المدن الفينيقية الجذور، تأخّرت كثيراً حتى المائة عام ونيّف الفائت. لكن، وبحسب مصادر في المديرية العامة للآثار التابعة لوزارة الثقافة اللبنانية، بعد أن تعرّضت آثارها إلى النهب، وتوزّعت لماماً في أنحاء مختلفة من العالم، ما يفقد التواريخ الدقيقة والواضحة للمدينة.
النصوص لم تتحدّث عن صيدا إلا بدءاً من القرن الرابع عشر ق.م. عندما ورد ذِكرها في رسائل "تلّ العمارنة"، وهي مجموعة المراسلات الدبلوماسية التي كان ملوك المدن الكنعانية، ومجالس شيوخها يبعثون بها إلى الفرعون لعرض واقع حالهم عليه.
ويتبيّن من خلال عدد من الإشارات التاريخية أن اقتصاد صيدا ولا سيما علاقاتها التجارية مع مصر، قد بقي على ازدهاره وقد بلغت تجارة صيدا في غضون الألف الأول ق.م. درجة متميّزة من الازدهار والانتشار، الأمر الذي جعل المدينة تحتلّ مركزاً مرموقاً بين المدن الفينيقية.
في العصر الإسلامي، دخلت صيدا في كنف الدولة الإسلامية عام 636 م، حتى سقوطها في أيدي الصليبيين بين عامي 1110 و1291، فكانت في أيامهم إحدى أهمّ بارونيات "مملكة القدس اللاتينية".
الآثار واللُقى المتوافرة، التي نجت، ورسائل "تلّ العمارنة"، تظهر الكثير من أهميّة صيدا، وأبرز ما تقدّمه أنها مدينة عبرت بمختلف الحُقَب والعصور التاريخية، ومرّت عليها أحداث جِسام، وسيطرت عليها شعوب مختلفة من الشرق والغرب، في مراحل مختلفة من حياتها.
في استعراض سريع للحقبات التي مرّت على صيدا، تعتبر السيطرة الآشورية، والحضور الفارسي في الحقبة الفينيقية من أقدم ما عاشته صيدا، تتلوها الحقبة اليونانية المُتأغْرقة، فالرومانية، فالبيزنطية، فالعربية الإسلامية، فالصليبية، ثم العثمانية قبل ولوج العصر الحديث، ما يدلّ على أهميّتها التاريخية الكبيرة.
قامت صيدا القديمة على رأس صخري تقابله جزيرة صغيرة، وتمّ ردم المضيق الذي يفصل بينهما، وأقدم الشواهِد على التوطّن في بقعة صيدا يعود إلى عصر الحجر والنحاس (الكلكوليتي) في الألف الرابع ق.م. وقد عثر على هذه الشواهِد في موقع قلعة "المعزّ" المعروفة أيضاً بقلعة البر. كما عثر على بعضها الآخر في موقع "الدكرمان" على بُعد نحو كيلومتر واحد إلى الجنوب من صيدا.
وفي العصر الإسلامي، دخلت صيدا في كنف الدولة الإسلامية عام 636 م، حتى سقوطها في أيدي الصليبيين بين عامي 1110 و1291، فكانت في أيامهم إحدى أهمّ بارونيات "مملكة القدس اللاتينية".
وفي أيام المماليك، ومن بعدهم العثمانيين، في أوائل القرن السادس عشر، استعادت صيدا مكانتها وأهميّتها، ولا سيما في أوائل القرن السابع عشر، في ظلّ حكم الأمير فخر الدين المعني الثاني (1572 - 1635) الذي جعلها عاصمة له عام 1594، فرمَّم أسوارها، وأقام فيها قصراً، وحمامات، وخانات، وشجّع فيها النشاط الاقتصادي، وجعل منها محطّة تجارية هامة بين أوروبا وبلاد الشام.
ما تبقّى من آثار يتحدّث عن مرور صيدا في هذه الحقبات التاريخية، ولكل منها انتماء وهوية وفق العصر الذي بُنيت أو أنشئت فيه، ومن أبرز ما تحتويه من آثار:
قلعتا البحر والبرّ، ويعود تاريخ بناء قلعة البحر إلى القرن الثالث ميلادي، حيث أقام الصليبيون قلعة صغيرة تتّصل بالشاطىء بواسطة جسر حجري. وقد شيّدت القلعة على مراحل بين عامي 1227 و1291، تاريخ سقوط صيدا بيد المماليك، واستعملت في بنائها حجارة وعناصر بنيانية أخرى تمّ اقتلاعها من أبنية تعود إلى فترات سبقت العصر الصليبي.
أما قلعة البرّ فيطلق عليها إسم قلعة "القدّيس لويس" وهو "لويس التاسع" ملك الفرنجة الذي قاد الحملة الصليبية السابعة (1248-1254). تحتلّ هذه القلعة قمّة التلّ القديم الذي يشرف على المدينة من ناحيتها الجنوبية. وقد أقيمت على أنقاض قلعة أخرى أقدم عهداً تعود إلى العصر الفاطمي، وتنسب إلى الخليفة المعزّ (952-975). وتنتشر على سفوح التلّ الأثري أعمدة تعود إلى العصر الروماني.
ومن الخانات، خان الإفرنج، وهو واحد من عدّة خانات أقامها الأمير فخر الدين المعني الثاني في بدايات القرن السابع عشر لاستقبال التجّار والبضائع، وكان هذا الخان مركز النشاط التجاري في صيدا حتى القرن التاسع عشر. و"خان الرز" وهو صورة مصغّرة بالشكل والطراز عن خان الإفرنج، وهو أيضاً من أبنية عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني، وقد استخدم مأوى للمسافرين، ومستودعاً للأرز المستورد من مصر.
النصوص لم تتحدّث عن صيدا إلا بدءاً من القرن الرابع عشر ق.م. عندما ورد ذِكرها في رسائل "تلّ العمارنة"، وهي مجموعة المراسلات الدبلوماسية التي كان ملوك المدن الكنعانية، ومجالس شيوخها يبعثون بها إلى الفرعون لعرض واقع حالهم عليه.
وفي صيدا العديد من المساجد الأثرية، منها "جامع باب السراي" الواقع في الجهة الجنوبية الشرقية من الساحة، بناه الشيخ أبو اليمن بن إسحق بن إبراهيم سنة 1201 م. لذلك، يعدّ من أقدم مساجد صيدا، قبّته محمولة على عقود ضخمة.
و"الجامع العمري الكبير"، يقوم قرب الشاطىء إلى الجنوب الغربي من الأسواق القديمة، ويتألّف من بنية مستطيلة ذات أربعة مجازات تدعمها من الخارج دعامات متينة. ويبدو اليوم مزيجاً من البنى الصليبية والمملوكية.
و"جامع أبو نخلة" الذي كان في الأساس زاوية صوفية لأتباع الطريقة العبيدية. تعلو المسجد مئذنة قليلة الارتفاع تشبه إلى حدّ بعيد في هندستها المآذن المغربية.
و"جامع الكيخيا" بناه كتخدا مصطفى قبل سنة 1624 م. يمتاز بعلوّ سقفه، وارتكازه على عدد قليل من الأعمدة. منبره من الرخام الأبيض، وفي وسط الصحن بركة وعلى مدخله سبيل ماء.
و"جامع بطّاح"، عرف أيضاً بإسم "جامع السوق" بسبب قربه من أسواق صيدا القديمة. يمتاز بهندسته البسيطة ومئذنته القليلة الارتفاع.
ومن الحمّامات الأثرية، "حمّام الشيخ" قريب من "جامع الكيخيا"، بلاطه ناري ومغاطسه مُنمّقة، و"حمّام الورد" بالقرب من "الجامع الكبير"، بناه آل حمود سنة 1730 م. يمتاز بزخارفه وقاعته الواسعة، و"حمّام السبع بنات" ويعرف بهذا الإسم لوجود سبع صنابير للمياه في داخله.
ومن القصور، قصر الأمير فخر الدين، وكان يضمّ قاعات واسعة وغرفاً عديدة، وهو مؤلّف من طابقين، الأرضي ما زالت بعض الأجزاء موجودة فيه، وهناك مشروع لترميمه. أما الطابق الأول فقد تهدّم في ثمانينيات القرن الماضي.
و"قصر دبّانة" يقوم في آخر سوق الصاغة بناه آل حمود في سنة 1730 م. وامتلكه آل دبّانة سنة 1765 م. يتألّف من ثلاث طبقات تقوم في الطبقة الثانية منه شرفات تطلّ على الفناء الداخلي وتزيّن جدرانه النقوش والخطوط الجميلة، وزجاج نوافذه ملوّن، وسطحه مكسوّ بالقرميد.
وفي صيدا كنائس أثرية قديمة، أبرزها كنيسة مار الياس للموارنة وقد تحوّل هذا المبنى من مصبنة إلى كنيسة في العام 1616م. وكنيسة القدّيس نقولا وهي كنيسة الروم الأرثوذكس المبنية سنة 1690 م. وسقفها معقود ومذبحها بيزنطي الطراز.