البترون: نهوض سياحي لمدينة فينيقية الجذور
تنتمي إلى الحقبة الفينيقية وما زالت حية إلى اليوم.. تعالوا نتعرف إلى مدينة البترون اللبنانية.
عندما تنتمي مدينة إلى الحقبة الفينيقية وتحيا حتى اليوم، فإن ذلك يعني أنها مرّت بمختلف حقب التاريخ، والبترون اللبنانية مثال لذلك، مثلها مثل صور وصيدا وجبيل وطرابلس وأوغاريت وأرواد وسواها.
والبصمات الفينيقية في البترون واضحة، تتجلّى في أكثر من عنصر، أبرزها سورها الساحلي الحامل لهويّتها التاريخية وإسمه "السور الفينيقي" الفريد من نوعه، وبقايا قلعة فينيقية داخل المدينة، نمت منشآتها الحديثة بين ظهرانيها، وانتشرت بكل اتجاه، ويبدو من جولة داخل المدينة القديمة، كيف يختلط حابل التاريخ بنابل الحداثة، وما بينهما معالم متنوّعة المشارب، والأشكال والهوية، ومنها السوق العتيق، والقلعة الفينيقية، وعدد من الكنائس، وكرسي المير، وسواها من معالم.
عند تسميات المدن والقرى اللبنانية، أول ما تتبادر إلى الذهن موسوعة أنيس فريحة لأسماء المدن والبلدات اللبنانية، وفيها أن إسم "البترون" يرجع بجذوره إلى اللفظة السامية "بتر" ومعناها الصخر، والشاهق العالي، والسبب كثرة الصخور العالية في تلالها.
بينما يعتقد الأبوان حبيقة وأرملة، وهما من المهتمّين بالتاريخ اللبناني، أن تسمية البترون مركّبة من "بيت" و "ترونا" وهي تعني "بيت الرئيس".
كما يتمّ التداول في أن "البترون" كلمة يونانية، مشتقّة من كلمة "بوتريس" التي أطلقها اليونانيون على البلدة، وكانوا يتبعونها دائماً بكلمة الجميلة "Beautris la belle" ومعناها عنقود العنب نسبة إلى أشجار الكرمة التي كانت تغطّي مساحات واسعة من حقولها، وجلالها فكانت سبباً في تطوّر صناعة النبيذ فيها.
جولة في أحياء البترون القديمة تظهر عراقتها وترافد العصور فيها، وإذا بدأت الجولة من الشمال، يمكن ملاحظة ارتفاع عن سطح البحر يناهز 10 أمتار، يبدو منه السور الفينيقي عند الشاطئ تماماً، وهو جدار عالٍ ومتماسك زالت بعض أقسامه، ويبلغ طوله 225 متراً وارتفاعه نحو 5 أمتار وعرضه متر ونصف المتر عند النقطة الأعلى منه، ولا يبدو أنه مبني بناء عمرانياً، بقدر ما يوحي شكله بأنه امتداد صخري طبيعي، وشكّل سدّاً أمام العواصف البحرية.
وعلى طرف الارتفاع، تقع كاتدرائية مار أسطفان التي تعود إلى القرن العشرين، وقد أقيمت مكان كنيسة قديمة، وانتهى بناؤها حوالى سنة 1910، وتتميّز بطراز معماري مزيج من بيزنطي وروماني.
ثم كنيسة مار جرجس للروم الأرثوذكس، التي تجاور كاتدرائية مار أسطفان، وقد بنيت على الطراز البيزنطي مع قبّة فريدة في نوعها. انتهى بناؤها في آب/أغسطس سنة 1867.
وهناك كنيستان أخريان هما كنيسة سيّدة الساحة (1898)، وكنيسة سيّدة البحر (القرن التاسع عشر)، ويمكن مشاهدتهما خلال الجولة داخل المدينة القديمة.
وبين الكنيستين، تقع القلعة الفينيقية التي لم تعد مبنى قلاعياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل بقايا أثرية داخل طرقات المدينة القديمة الضيّقة الموازية للشاطئ، أضيفت إليها إنشاءات بطرق عشوائية غيّرت معلمها الأساس. وفي الروايات التاريخية، أن ملك صور إيتوبعل الأول (القرن التاسع ق.م.) بنى القلعة لحماية مملكته من الغزو الأشوري.
وبنهاية الطريق الداخلي الموازي للشاطئ، الذي تحفّ به الأبنية التراثية المتنوّعة، ينفتح الأفق على المدخل الجنوبي للمدينة، وهناك يقوم مرتفع كرسي المير، وهو صخرة حفر فيها باب ودرج من جهة الغرب يرقى بواسطته الزائر إلى سطحها، ويمكن الجلوس عليه مباشرة فوق مياه البحر؛ وثمة صخرة على شكل كرسي تقع في البحر، يقال لها كرسي المير أيضاً على المستوى الشعبي.
خارج هذا الطريق لجهة الجنوب، تقوم سلسلة منتجعات حديثة، أعطت للمدينة بُعداً سياحياً مميّزاً، وبينها يقوم معهد علوم البحار المتطوّر علمياً، والفريد من نوعه في لبنان وربما في الشرق، ويُعنى بالدراسات البحرية، وحياة البحار، ومدى تلوّث مياهه.
ويمكن الخروج من الجولة في المدينة القديمة نحو الشارع العام الحديث، عبوراً بالسوق القديم، الذي يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، وهو تراثي مبني بالحجر الرملي، وبالعقود المتصالبة مثله مثل العديد من الأسواق اللبنانية العتيقة المنتشرة في المدن الساحلية، وما يزال يستخدم كسوق تجاري وسياحي، وينشط فيه عدد من الحرف اليدوية.
خارج الإطار العمراني للمدينة، وعند طرفها الشرقي، في وادٍ يعرف بوادي نهر الجوز، تقع قلعة "المسيلحة" الشهيرة التي شيّدت فوق صخرة معزولة ذات جوانب شديدة الانحدار.
وعلى الرغم من أن البترون تتشابه مع بقيّة المدن الساحلية بانتشار بساتين الحمضيات حولها، إلا أن حِرَفييها أرسوا شهرة واسعة بصناعة "الليموناضة" التي اشتهرت المدينة بها، وتفنّنوا بتصنيعها كل بطريقته، مستفيدين من أن موسم الليمون الحامض الأصفر يثمر مرتين في العام، ما يعطي الحرفة إمكانية الاستمرار طوال العام.
ولذلك، يؤمّها السوّاح واللبنانيون من كل المناطق للتلذّذ بمذاق عصيرها الفريد، كما كانت ناقلات الركّاب الكبيرة على الطريق الرئيسي تؤمّ محلات بيع الليموناضة، كمحطة استراحة خصوصا صيفاً، وذلك قبل تحوّل العبور إلى الأوتوستراد الجديد
وأدخلت الليموناضة مدينة البترون عام 2012، موسوعة غينيس للأرقام القياسية عبر تحضير أكبر كوب عصير من الليموناضة بسعة 5543 ليتراً، والتي اشتهرت بها البترون منذ القدم. والليموناضة تحضر في كل مناسبات البترون، وأحياناً أقيمت مهرجانات خاصة بها.
وحفاظاً على هوية المدينة الفينيقية، ظّل ريمون بدران من أبناء المدينة يحاول إحياء عملية تصنيع الأرجوان من أصداف بحرها لأربعين سنة، وعرضت بلدية المدينة عمله في حزيران/يونيو 2020.
وتقام في البترون مناسبات واحتفالات خاصّة بالمدينة، منها "قدّاس البحر"، ومهرجان البترون الصيفي السنوي، ويقصدهما المشاركون من مختلف الأنحاء اللبنانية.