التعقيم ضروري ولكن دعوا أطفالكم يلعبون بالتراب

شدة تعقيم البيئة التي ينمو الأطفال فيها حرمتهم من التعرض لبكتيريا وفيروسات تساعد على تقوية جهازهم المناعي.

  • التعقيم ضروري ولكن إلعبوا بالتراب
    التعقيم ضروري ولكن إلعبوا بالتراب

في ثمانينات القرن الماضي، لوحظ ارتفاعٌ ملحوظٌ في معدلات الإصابة بأمراض المناعة الذاتية وأمراض الحساسية، كالربو والأكزيما وأمراض التهاب الأمعاء وغيرها، وخصوصاً في مجتمعات الدول المتقدمة. وقد أثار تركّز نسب الإصابة المرتفعة هذه في هذه المجتمعات تحديداً فضول كثيرٍ من الباحثين لتفسير هذه الظاهرة.

من هنا جاءت فرضية النظافة أو ما يعرف بالـhygiene hypothesis . أول من صاغ هذه الفرضية كان عالم الأوبئة دايفيد ستراتشان في جامعة لندن عام 1989.

تفسر هذه الفرضية ارتفاع نسب أمراض الحساسية والمناعة الذاتية كنتيجة مباشرة غير مقصودة لانخفاض التعرض للبكتيريا والفيروسات غير المسببة للمرض في الطفولة.

بلغة أبسط، شدة تعقيم البيئة التي ينمو الأطفال فيها حرمتهم من التعرض لبكتيريا وفيروسات تساعد على تقوية جهازهم المناعي، وتدريبه على التمييز بين ما هو خطر وما هو حميد. هذا الأمر يؤدي غالباً إلى انشغال الجهاز المناعي بردود فعل مبالغ بها ضد محفزات طبيعية أو غير خطرة، كالفستق أو أنواع النباتات أو الغبار مثلاً، أي ما يعرف بالحساسية.

رصد معدلات أقل من أمراض الحساسية

هناك الكثير من الأدلة التي تدعم هذه الفرضية، والتي جعلت منها فرضيةً مهمة في الوسط العلمي، كرصد معدلات أقل من أمراض الحساسية والمناعة الذاتية لدى العائلات الزراعية التي تتعرض بشكل متكرر للحقول والمواشي مقارنة بعائلات المدن، إضافةً إلى الارتباط بين ارتفاع نسب الأمراض المعدية في منطقة معينة وانخفاض نسب أمراض الحساسية والمناعة الذاتية فيها.

من هنا، بات هناك دعوات إلى التخفيف من شدة تعقيم أغراض الأطفال، وإلى السماح لهم باللعب في مساحات طبيعية واللعب بالرمال والتراب، ولو عرضهم ذلك لبعض الجراثيم.

وكما نعقّم البيئة "الميكروبية" بإفراطٍ أحياناً، نفعل ذلك أيضاً في بيئاتٍ أخرى نفسية وفكرية وعاطفية للطفل والمراهق في نموه. وعن حسن نيّة لحماية الأطفال أيضاً، كثيراً ما نجد أنفسنا نخلق النوع نفسه من البيئات الشديدة التعقيم هذه التي تحرم الأطفال والمراهقين من تدريب أجهزتهم المناعية النفسية والفكرية وتطويرها.

تتوافق هذه الفكرة ومفهوم "ضد الهشاشة" أو الـanti-fragility  الذي قدّمه نسيم طالب كنموذج لبناء الأنظمة والأجهزة، وحتى الأشخاص، وهو نظام ذو جودة تَذكّر ينبغي أن يتعرض لصدمات وتحديات واختبارات كي يتطور ويطور تقنياته الدفاعية.

مفهوم الهشاشة

 أفضل مثال لمفهوم "ضد الهشاشة"، أي النظام أو الجهاز الذي يتحسن ويتطور مع التحديات، هو الجهاز المناعي لجسم الإنسان، ولكن ما يحدد مدى صلابة جهاز المناعة وجاهزيته للتعاطي مع التهديدات الخارجية في المراحل اللاحقة، هو نوع التحديات التي تعرض لها في المراحل المبكرة (أي الطفولة).

لذلك، عزل الأطفال في فقاعة شديدة التعقيم يشل هذا الجهاز ولا ينميه كما يجب، ويجعله أكثر حساسية ضد مواد ومحفزات غير خطرة سيتعرض لها لاحقاً في حياته. الأمر نفسه يحدث مع الأطفال والمراهقين في بناء أجهزة مناعتهم النفسية والفكرية.

على سبيل المثال، يفسر أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة نيويورك جوناثان هايدت في مقابلته مع جو روغان أن النية الحسنة في حماية الأطفال باتت تساهم في تربية أجيال هشة على أكثر من صعيد. فبهدف حماية الأطفال من العنف اللفظي أو الجسدي في المدارس أو الملاعب، صار الأهل والمعلمون في السنين الأخيرة يتدخلون بإفراط في حل النزاعات بين الأطفال، وحتى منع وقوع أي نوع من شجار أو تلاسن بينهم.

يشير هايدت إلى أنَّ هذا النوع من التدخل المفرط، رغم أنه يبدو نبيلاً ولأسباب منطقية، يعوق نمو جهاز المناعة النفسي والعاطفي للأطفال. فالطفل يحتاج للتعرض للنزاعات والخلافات، ولشيءٍ من المضايقات والمواقف المستفزة (ما دامت لا تزال في إطار الأذى المقبول ضمن تفاعل الطفل مع محيطه)، وإلا لن يطور جهازه "المناعي"، وقد يكبر ليصبح "شديد الحساسية" تجاه أي موقف مزعج أو نقد لاذع، فيشعر بالخطر ويشن ردود فعل مبالغاً فيها ضد مواقف ومحفزات بسيطة وغير خطرة. 

تعقيم البيئة

ويشير كل من هايدت وغريغ لوكيانوف في كتابهما "تدليل العقل الأميركي: كيف ساهمت النيات الحسنة والأفكار السيئة في تهيئة أجيال للفشل"، إلى أننا صرنا نرى أنماط الهشاشة هذه أكثر فأكثر بفعل مقاربة التربية الحديثة، الأمر الذي سيتبلور بشكل أكبر في الأجيال القادمة.

كلَّما "نظفنا" وأفرطنا في تعقيم البيئة الفكرية، وخصوصاً للطفل والمراهق، خفضنا لدرجة كبيرة فرص الاحتكاك بـ"الميكروبات" الفكرية، وفرص التعرض لخلافات ونزاعات تقوي مناعتنا، وأضعفنا عن غير قصد جهاز المناعة هذا، وأنشأنا تدريجياً أجيالاً هشة شديدة الحساسية.

بعض "التعقيم" ضروري للحفاظ على السلامة، فلا يريد أحد أن يعرض أطفاله للأوبئة والأمراض المؤذية، كما لا يريد أن يعرضهم للأخطار الاجتماعية وللعنف والأذى الذي يترك ندوباً طويلة الأمد. في الوقت عينه، الإفراط في التعقيم والعزل، وأساليب الحماية المبالغ فيها، لها تداعياتها أيضاً على المدى الطويل.

خير الأمور أوسطها. لا تتخلّوا عن الاحتياطات ووسائل الحماية، ولكن بين الحين والآخر، العبوا بالتراب