عامٌ على تظاهرات السودان: ثورة الوعي نحو التغيير الحقيقي
وسوم كثيرة برزت على مواقع التواصل الاجتماعي لتقدم صورة مضيئة عن الاحتجاجات السودانية، حيث لم يشهد أي حراك عربيّ آخر سعى إلى التغيير في ظل تدخلات خارجية قوية ومؤثرة، دعوة إلى تعزيز الوعي والسلميّة كما شهد السودان.
كان العام 2019 عاماً حافلاً في السودان، عام تحولات سياسيّة فرضها الشارع الذي تظاهر شهوراً طويلة أملاً بتحقيق تغيير إيجابيّ مستقبلاً.
اعتراضاً على ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، انطلقت الاحتجاجات الشعبية في السودان يوم 19 كانون الأول/ديسمبر 2018، لتتحوّل سريعاً إلى حراكٍ يطالب بإسقاط النظام وتنحي الرئيس عمر البشير؛ مطلبٌ تحقّق بعد انقلابٍ عسكريّ غيّر بوصلة المظاهرات إلى المطالبة بتسليم السلطة للمدنيين، لتكون النتيجة حكومةً عسكريّة-مدنيّة بعد اتفاق توصلت إليه "قوى إعلان الحرية والتغيير" و"المجلس العسكري الانتقالي" لتقاسم السلطة.
الحراك الكبير في الشارع السوداني رافقه حراكٌ ناشطٌ على مواقع التواصل الاجتماعي. كعادته، كان موقع "تويتر" متصدراً لناحية التفاعل مع الأحداث ومحاولة الحشد للمظاهرات وتغيير مساراتها بحسب ما يفرضه الشارع.
فريق "قسم البيانات" في "الميادين نت" ومن خلال تحليل بيانات الوسوم التي راجت خلال الاحتجاجات في السودان من 1 كانون الثاني/يناير 2019 وحتى 31 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، توصل إلى أنّ أكثر من 3.1 مليون تغريدة تم نشرها حول الحراك، باستخدام مصطلحات أساسيّة كــ"تسقط"، "البشير"، "ثورة" "تنتفض" و"الشعب".
وبحسب الأحداث التي شهدها عام كامل من التحوّلات في السودان، يمكن تقسيم الحراك السوداني إلى 4 مراحل رئيسيّة، تبرز في نهايتها دعوات إلى نشر الوعي والنضج السياسي والاجتماعي.
المرحلة 1: تسقط بس!
(19 كانون الأوّل/ديسمبر 2018–11 نيسان/أبريل 2019)
من الدعوة إلى التظاهر لتحقيق مطالب معيشيّة، إلى الدعوة للعصيان المدني والمطالبة بإسقاط النظام، تحوّلت أهداف الحراك السوداني في مرحلته الأولى، لتتصدر وسوم #تسقط_بس (502.628 تغريدة) و#مدن_السودان_تنتفض (293.468 تغريدة) موقع "تويتر"، كشعارات أساسيّة كان يتردد صداها في شوارع الاحتجاجات.
وبالإضافة إلى العديد من الوسوم الداعية إلى العصيان المدني والنزول إلى الشارع، برزت وسوم إيجابية تركز على الدعوة إلى سلميّة المظاهرات والوحدة بين مختلف انتماءات المتظاهرين، وهما #سلمية_سلمية و#قوتنا_في_وحدتنا.
تجمع المهنيين السودانيين كان نجم موقع "تويتر" خلال الاحتجاجات. التجمع الذي تأسس بهدف إيجاد بديل للنقابات الرسمية التي يسيطر عليها النظام، كان من أبرز من قادوا المظاهرات في أيامها الأولى، قبل أن يساهم بشدة في حشد المتظاهرين والدعوة إلى إسقاط النظام.
بحوالي مليون إعجاب على صفحته الرسميّة على "فيسبوك" وأكثر من 360 ألف متابع على حسابه على "تويتر"، نشطت حسابات التجمّع بشكل كبير، ليتحوّل إلى مصدر أساسيّ لمختلف المستجدات السياسية والأمنيّة والمطلبيّة والاقتصاديّة.
وحظي التجمع بالتفاف كبير حوله من المتظاهرين، الذين اعتبروا أنه يمثلهم ودعموا مساعيه للتغيير. لتبرز عدد من الوسوم المرتبطة به، مثل #تجمع_المهنيين_السودانيين و#تجمع_المهنيين_يمثلني.
وكان تأسيس نقابات مستقلة وتعزيز العمل النقابي من أبرز الأهداف التي عمل عليها العمال في السودان خلال المظاهرات. تحت هذا المبدأ تأسست في كانون الثاني/يناير 2019 "مبادرة استعادة نقابة المهندسين السودانيين"، بهدف "توحيد الجهود لإعادة تأسيس نقابة قائمة على العمل الديمقراطي".
المرحلة 2: سقوط البشير
(11 نيسان/أبريل–3 حزيران/يونيو 2019)
تاريخ 11 نيسان/أبريل 2019، كان يوماً مفصلياً في عام التحولات في السودان؛ انقلابٌ عسكري يطيح بالرئيس عمر البشير، لتبدأ مرحلة انتقالية في تاريخ البلاد بعد حكم استمر 30 عاماً.
عمّت الاحتفالات أرجاء المدن السودانية. سقوط البشير كان هدفاً تحقق، ولكن سرعان ما اعتُبر ناقصاً، فالبشير سقط بانقلاب عسكريّ، والسلطة أصبحت بيد المجلس العسكريّ، لتنطلق معركة جديدة بالنسبة للمتظاهرين السودانيين، وتتحوّل المظاهرات للمطالبة بتسليم الحكم لسلطة مدنيّة.
أطلق الناشطون وسم #لم_تسقط_بعد وتفاعلوا عليه بشدة، تحت مبدأ أن سقوط البشير ليس الهدف الأساسي، وأن تحدي نقل السلطة من المجلس العسكري إلى حكم مدني انطلق الآن.
في الفترة نفسها، تركزت التغريدات على الدعوة إلى حكم مدنيّ، فتفاعل الناشطون السودانيون باستخدام وسميّ #مدنية_بس و#مدنية_قرار_الشعب، للتشديد على ضرورة أن يكون الحكم مدنياً لا عسكرياً، وأنّ مدنيّة الدولة هي قرار واختيار الشعب السودانيّ.
في هذه المرحلة من المظاهرات تحديداً، برز الدور الكبير للمرأة السودانية، التي لطالما اعتبرت نفسها مظلومة خلال فترة حكم البشير. قادت العديد من المظاهرات، ثارت في الصفوف الأمامية، وبرزت "الكنداكة" آلاء صلاح كأيقونة للمظاهرات، كما كان لمبادرة "لا لقهر النساء" دوراً فعالاً في تشجيع النساء على التظاهر والمطالبة بحقوقهنّ.
بدلاً من مجرد الانضمام إلى المظاهرات، أظهرت النساء السودانيات مهارات قيادية، بحيث استخدمن "الزغرودة" مثلاً للدعوة إلى التظاهر. وتلبيةً لمطالبهن بالمشاركة في الحكم، تمّ في أيلول/سبتمبر 2019، تعيين 4 نساء كوزيرات من أصل 18 وزيراً في الحكومة الانتقالية.
المرحلة 3: الاحتجاج على السلطة العسكرية
(3 حزيران/يونيو–17 تموز/يوليو 2019)
شهدت هذه المرحلة أحداثاً كثيرة غيّرت من مسار المظاهرات في السودان؛ بتاريخ 3 حزيران/يونيو 2019، اقتحمت قوّاتٌ مسلّحة قيل إنها تابعة للمجلس العسكري وبدعم كبير من قوات الدعم السريع (الجنجويد)، مقرّ اعتصام ضخم أمام القيادة العامّة للجيش وقتلت العشرات.
المجزرة التي ارتكبت بحق المتظاهرين، تحولت إلى "ترند" أوّل على "تويتر" لأيام، بحيث كثف الناشطون التعبير عن غضبهم، والمطالبة بمحاسبة المسؤولين، بالإضافة إلى التشديد على نقل الحكم إلى سلطة مدنيّة.
بحسب تحليل فريق قسم البيانات في "الميادين نت"، شهدت هذه الفترة تحديداً، أكبر عدد من التغريدات طوال العام (834.610 تغريدة). راجت وسوم #عيد_شهيد، #مجزرة_القيادة_العامة و#HQ_massacre، كما تفاعل الكثيرون على هاشتاغات حول قطع الانترنت في العديد من المناطق السودانية، في محاولة لمنع المتظاهرين من التعبير عن رأيهم ووقف الحشد للمظاهرات.
سوداوية هذه المرحلة، تمّ كسر حدتها بالعديد من الوسوم المطالبة بالوحدة والنضال والتغيير، فراجت وسوم #نناضل_لا_نساوم و #سودان_الحرية_والتغيير.
في هذه الفترة المأساوية، برزت بشدة الدعوة إلى تشكيل لجان مقاومة في الأحياء والأرياف، بهدف نشر الوعي على ضرورة السلمية ومدنيّة الدولة. فتفاعل الناشطون على وسوم مثل #ندوات_لجان_الاحياء و #مواكب_الريف_للتغيير.
كما شهد شهر حزيران/يونيو تضامناً عالمياً وعربياً كبيراً مع المتظاهرين السودانيين، فاستخدم الناشطون حول العالم هاشتاغ #blueforsudan أو "أزرق من أجل السودان" تعبيراً عن تضامنهم خاصةً بعد مجزرة القيادة العامة.
المرحلة 4: الوعي أساس المرحلة
(17 تموز/يوليو–30 تشرين الثاني/نوفمبر2019)
بتاريخ 17 تموز/يوليو، أعلنت "قوى إعلان الحرية والتغيير" و"المجلس العسكري الانتقالي" في السودان التوصل إلى اتفاق سياسي لقيادة المرحلة الانتقالية لمدة 3 سنوات، من خلال تقاسم السلطة بين الطرفين.
لم تتحقق كل مطالب المتظاهرين، ولكن السودان دخل مرحلة انتقالية تقود نحو تغيير حقيقي بمشاركة القوى الأكثر فعالية في المظاهرات. تركزت الوسوم والتغريدات على موقع "تويتر" على هذا الاتفاق، ولكن برزت نقاشات حقيقية حول التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية التي تنتظر المرحلة الانتقالية، ودعوات للوعي وحماية المظاهرات والمكتسبات التي حققتها، لتصويب الحراك ومطالبه وتجنباً لسيناريو الحرب في العديد من الدول العربية، فنشط التفاعل على وسوم #معركة_الوعي، #تحديات_الفترة_الانتقالية و#تطبيق_العدالة_الانتقالية.
إيجابية الاتفاق، والمرحلة التي شهدت، بتاريخ 5 أيلول/سبتمبر، تشكيل أول حكومة منذ الإطاحة بالرئيس عمر البشير، تجسدت من قبل المتظاهرين بالدعوة إلى الوعي والحوار والتعايش السلميّ وتنظيف الدولة من الفاسدين.
وسوم كثيرة كـ #الوعي_أساس_المرحلة و#تعزيز_التعايش_السلمي و#قوتنا_في_وحدتنا، برزت لتقدم صورة مضيئة عن الاحتجاجات السودانية، حيث لم يشهد أي حراك عربيّ آخر سعى إلى التغيير في ظل تدخلات خارجية قوية ومؤثرة، دعوة إلى تعزيز الوعي والسلميّة كما شهد السودان.
وفي مرحلة الدعوة إلى إحكام الوعي والنضج، برزت مبادرات إنسانية واجتماعية مميزة، أعطت روحية مختلفة وجميلة للمظاهرات السودانية.
خلال شهر أيلول/سبتمبر الماضي، تأسست مبادرة شبابية تحت عنوان "أفلام في الشارع"، التي تهدف إلى إحياء الثقافة في الشارع السوداني المتظاهر، كمحاولة لإنعاش الخرطوم وأزقتها بالشعر، الموسيقى والسينما.
بحضورٍ مكثفٍ، بدأت تُعرض العديد من الأفلام العربية والعالمية، التي تحمل طابعاً سياسياً، اجتماعياً أو ترفيهياً، في العديد من السهرات في الشوارع، تتبعها حلقات نقاش.
وسعياً للتخفيف من حدة أزمة المواصلات الخانقة في السودان، لا سيّما في العاصمة، انطلقت مبادرة شبابية بعنوان "يا ماشي لبيتك، شيل معك نفرين!".
عبارة هتف بها شبانٌ سودانيون وكتبوها على لافتات حُملت في الشوارع، لإقناع السائقين في سياراتهم الخصوصية، بأن يقلّوا معهم مجاناً الركاب المنتظرين لساعات وسيلة نقل توصلهم.
عام صعب مرّ على السودان، بمظاهراته، تغيّراته السياسيّة وأحداثه المأساوية، لكنه عامٌ آمَنَ فيه شباب ونساء "تسقط بس" بإمكانية إحداث تغيير حقيقي لا مجال لأن يتحقق دون وعي ونضج، افتقدته العديد من الحركات المطلبية العربية منذ العام 2011 حتى اليوم.