التحوّل الأميركي في المنطقة.. حدثان بالغا الأهمية
انقضى العام 2015 على حدثين بالغي الأهمية لهما ارتباط أساسي بالسياسة الأميركية في المنطقة: الاتفاق النووي مع إيران، وقمة كامب ديفيد التي عقدت بين أوباما وممثلي زعماء الخليج العربي. ينطوي هذان الحدثان على أبعاد استراتيجية، ويعبّران عن التحولات الأميركية ضمن المنظومة الدولية. هنا محاولة لفهم هذه المنظومة غير الثابتة، باعتبارها باباً لقراءة التحولات الأميركية وانعكاساتها المباشرة على منطقتنا. قراءة يقودنا إليها الباحث السياسي الدكتور قاسم عزالدين.
أسباب التحوّل
إذا أكمل الشرق الأقصى على هذا النحو فسوف يشكل تهديداً استراتيجياً لمصالح الغرب. الاستقلال الاقتصادي جسر العبور إلى التحرر من التبعية. إذا تحقق ذلك سيستتبعه بحكم القوة تحرر في القضايا الحيوية الأساسية التي تفرض نفسها على الدول. هذه المنطقة مؤهلة ليس فقط لاستقلالها عن الغرب بل لمنافسته على الصعيد الدولي. الأمر الذي دفع الغرب إلى التفكير بإعادة تفكيك الاستراتيجة القديمة وإعادة تركيبها. كيف يجري ذلك عملياً؟ الوقائع التي تعبر عن ذلك تتمثّل في نقل القواعد العسكرية وقوات التدخل، وإعادة توجيه التقنيات والإمكانات، وتحديد الدول الحليفة. على أساس ذلك تبنى الاستراتيجية. من دون هذه المندرجات يصبح الكلام من باب الانشاء. هذا هو الاتجاه الذي فرض نفسه على الولايات المتحدة، البلد الذي ورث بعد الحرب العالمية الثانية امبراطوريتين غربيتين، الفرنسية والبريطانية، وبات بعد انتهاء الحرب الباردة القوة الأمبراطورية الكبرى. لكن ما بني بعد الحرب العالمية الثانية انتهى أجله. ينطبق ذلك على مسألة الحدود و"الدولة الوطنية". قد يشبّه لنا في الإطار الإقليمي الضيّق أن العراق أو السودان وحدهما من يتعرضان للتفكيك، في حين أنه في الإطار الواسع يجري هذا الأمر على مستوى العالم. في هذا السياق نلاحظ مثلاً أن عصبة الأمم كانت تتشكل من نحو 30 دولة قبل الحرب العالمية الثانية. الأمم المتحدة كانت تضم أيضاً في مرحلة معينة نحو 100 دولة، في حين نجدها اليوم تضم نحو 200 دولة. من أين أتت هذه الدول الجديدة؟ من تفكك الجغرافيا في يوغسلافيا وأوروبا الشرقية وغيرها. القصد أن هذا المسار لا ينحصر فقط في المنطقة العربية.
عقد جديد مع السعودية.. نهاية الحلف
ذلك لم يعن فقط أن تؤمن واشنطن الحماية للسعودية إذا ما تعرضت الأخيرة للاعتداء. الترجمة الأميركية للاتفاق كان يعني: بؤرة النفط هذه نحكمها وإياكم والنفط لنا. انطلاقاً من هذه القاعدة التي حكمت العلاقة سيصبح الأميركيون مسؤولين عن كل ما يحدث في المملكة. لم يبسط أصحاب القرار "اليانكيون" نفوذهم بالضرورة عبر تعلميات مباشرة. كان يكفي أن يتمنوا أو يعبّروا عما يرونه الأنسب حتى تتحقق الإرادة الأميركية. علاقة يحكمها بالشكل بروتوكول، لكن شرطي العالم الأميركي هو من يقرر السياسات الأساسية.بالنسبة لأميركا، كان ذلك سيف ذو حدين. ذلك أنه حمّلها، بالتوازي مع آل سعود، مسؤولية السياسات الصادرة رسمياً عن السعودية. هو يريحها من جهة، لكنه يلقي عليها بأعباء من جهة أخرى.أدركت أميركا أنها لم تعد تستطيع أن تلعب دور شرطي العالم. حدث التحوّل الاستراتيجي الذي شمل العلاقة مع السعودية. عبّر أوباما عن هذه الاستدارة حرفياً في خطاب "حال الاتحاد" بداية العام 2016، ثم في ما نشره جيفري غولدبرغ في مجلّة "اتلانتك" تحت عنوان "عقيدة أوباما". في سياق هذه التحولات جاء اتفاق "كامب ديفيد" بين أوباما وزعماء الخليج. اتفاق حافظ على مظلة الحماية الأميركية ضد أي اعتداء خارجي على السعودية ودول الخليج، لكنه أنهى عملياً اتفاقية روزفلت- عبدالعزيز.السياسة الجديدة أعطت أنظمة الخليج حرية التصرف بما لا يتناقض مع المصالح الاستراتيجة الأميركية. بات على الحكومات الخليجية من اليوم وصاعداً أن تتحمل وحدها تبعات سياستها. أحد تجليات هذا التحوّل تجلّى بالموقف الأميركي من الصراع السعودي الإيراني. وقفت واشنطن على الحياد ودعت إلى حوار دبلوماسي لحل المشاكل.شاهد آخر يتمثل في الملف السوري. التباين بين سياسات البلدين بات جائزاً. بإمكان السعودية أن تصر على إزاحة بشار الأسد في الوقت الذي تتجاوز فيه أميركا هذا المطلب. المعنى العملي لذلك من المنظور الأميركي: تطلبون منا أن نحارب في سوريا، عليكم أن تحاربوا بأنفسكم. وكما في سوريا كذلك في اليمن. لم تعد واشنطن مضطرة تبعاً لذلك أن تتحمل تبعات أي سياسة خارجية سعودية لا تنسجم مع المعايير الأميركية المعنلة. دينيس روس في كتابه الأخير يتحدث عن هذا الموضوع بالتحديد لكن بصياغة أخرى. يعتبر أن السعودية عبئ على أميركا، كما يعتبر أن العلاقة التي تحكم البلدين علاقة شراكة لا حلف. الحليف هو من تتبادل معه القيم والرؤى نفسها. هذا لا ينطبق على علاقة السعودية مع أميركا من وجهة نظر روس. قد لا يمانع الأميركيون وفق هذه السياسة من حرب بالوكالة من خلال شركائهم وضمنهم السعودية. في الملفات الساخنة في المنطقة ساير جون كيري السعوديين. اتُفق في فيينا سابقاً على أولوية محاربة الإرهاب. لم يتحقق هذا الأمر لفترة طويلة. كذلك اتُفق على تحديد قوائم الجماعات الإرهابية من دون نتيجة حتى الآن. طالما أن هذه الأمور لا تتعارض مع السياسة الاستراتيجية الأميركية لا مانع لديهم من سياسة سعودية متشددة. عندما تصل الأمور إلى نقطة تعارض استراتيجيتهم يضعون لها حداً. تجلى هذا الأمر في رفض الأميركيين مثلاً محاولة تركيا إقامة منطقة عازلة عند حدودها مع سوريا. السعودية مستمرة حتى الآن بسياستها في سوريا وفي اليمن. هي تدرك أن أي تراجع غير محسوب سوف يورطّها بحرب داخل أراضيها مع تنظيمي القاعدة وداعش.
حرب ناعمة على إيران
بقي سيناريو الحرب حبيس الأدراج بعدما لوّح به المسؤولون الأميركيون مراراً. السؤال المرير الذي كان يطرح: ماذا عن اليوم التالي للحرب؟ كل التقارير العسكرية والأمنية كانت تشير إلى أن هذا اليوم سيعم فيه الخراب. جاء الاتفاق النووي في سياق التحولات الكبرى في العالم، ومن ضمن الاستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة. تتخذ هذه الاستراتيجية طابعاً انسحابياً. يقتضي ذلك عدم التدخل عسكرياً قدر الإمكان. بات التدخل مكلفاً، غير مجد. لم يعد بمقدور القوة العظمى تحريك آلتها العسكرية بحرية. باتت أولوياتها في مكان آخر. برزت قوى إقليمية قادرة على مجابهتها. تجربة العراق دليل على ذلك. فهم الأميركيون في هذا البلد شبه الصحراوي أن أسطورة التدخل العسكري انتهت. جزء من العدوان الإسرائيلي على غزة كان محاولة لإقناع الأميركيين أن هذه الخلاصة غير حتمية، وأن الوسائل العسكرية ما زالت صالحة. لم تستطع إسرائيل إثبات ذلك. قبلها كانت تجربة حزب الله لا تزال ماثلة. هذا كلّه لا يعني عدم التدخل بالمطلق. لكن التدخّل العسكري لم يعد منهجاً. حلّت مكانه وسائل بديلة. الحرب الناعمة، أو الحرب الذكية كما سماها أوباما. يتدخّل الأميركيون في سوريا والعراق اليوم من خلال عشائر وقوى محلية. سعوا إلى موطئ قدم في العراق لأنهم كان يبحثون عن مكان مواز لسوريا حيث فشلوا في التدخل المباشر، وحيث فشلت كل محاولات بلورة قوى عسكرية "معتدلة" يعتمد عليها. الخلافات بين أميركا وإيران في المنطقة ستبقى قائمة بعد الاتفاق النووي. يراهن الأميركيون اليوم على متغيرات داخلية في إيران. يتصورون أن جيل الثورة هرم. هناك قواعد اشتباك جديدة بين الدولتين.