قواعد اللعبة تتغيّر.. خارطة جديدة؟ (1)
تبدلات يشهدها العالم ستترك آثارها على ملامح العام الجديد. انزياحات في توازن القوى وقواعد جديدة لم تألفها العلاقات الدولية في السنوات السابقة. أميركا تنسحب من بعض مناطق نفوذها لمصلحة روسيا. تحاول استمالة موسكو وعينها على الصين. في قلب أميركا صراع على التوجهات وصناعة القرار، قطباه المؤسسة العميقة وترامب الذي فاز خلافاً لرغبتها. مآل هذا الصراع سيحدد الكثير من ملامح 2017. هنا قراءة استشرافية تستند إلى معطيات وآراء المفكر الاستراتيجي عماد فوزي شعيبي، رئيس مركز المعطيات والدراسات الاستراتيجية بدمشق، تغوص في أبعاد الصراع الدولي واستراتيجيات أقطابه في عالم بدأ يبتعد من القطبية الأحادية ضمن ملف "2017.. عالم يتحوّل".
الثلاثة الكبار وقواعد اللعب الجديدة
كان الأميركيون يعتبرون أنّ روسيا هي العدو الأول. اليوم ترى واشنطن أنّ الصين هي العدو الأول.
لذلك، تعمل أميركا على الانسحاب من بعض مناطق نفوذها وتفسح في المجال
لروسيا التي استطاعت أن تجعل لنفسها موطئ قدم في الشرق الأوسط. هذا ما لم يحدث منذ
مؤتمر
يالطا 1945، وهو المؤتمر الذي أدى الى
تقسيم مناطق السيطرة والنفوذ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كما تم الاتفاق
فيه بشأن "قواعد اللعب" الجديدة.
الأميركيون يريدون مهادنة الروسي مقابل استخدامه لاحقاً في مواجهة
الصيني. هذا التوجه هو الذي يفسر التبدل الكبير الذي يحصل في السياسات.
الأميركي يشعر أنّه لم يعد معنيّاً بالتفكير بالطريقة الاستراتيجية القديمة، كوضع اليد على منطقة الشرق الأوسط والنفط تحديداً. بات يتمتع باكتفاء ذاتي من خلال النفط الصخري. لم يعد يعنيه الصراع على هذه المادة لكنه حتما لن يترك المنطقة. لكن درجات الأولويات لديه تتغاير.
أميركا ليست مع انفراد روسيا بالسيطرة الغازية على أوروبا. في الوقت نفسه لا تريد أن يحصل تقارباً بين الأخيرة وبين الصين.
انطلاقاً من العقلية الأميركية البراغماتية، إذا تمّت المفاضلة ما بين الاتفاقيات النفطية والغازية التي وقعت بين روسيا والصين (تصل إلى نحو ٤٠٠ مليار دولار)، وبين إعطاء روسيا منطقة شرق المتوسّط مقابل تخليها عن التأييد الكلي للصين، (وهو أمر مستبعد)، سيفضل الأميركيون الخيار الأخير.
هذا النمط الترامبي من التفكير سينعكس على كل المنطقة. نحن أمام تحول كبير جرّاء التبدلات بنمط التفكير الاستراتيجي الأميركي. نمط يحاول أن يغيّر من لغة السياسة العالمية.
نحن أمام عالم هلامي لا يتعين بهذه السهولة. كلما جرى التفكير في تعقيداته كلما تعذر على الباحث تعيين القادم. درجة القلق تزداد مع زيادة عدم التعيين واللاموثوقية.
الصراع داخل أميركا.. من يقرر؟
يمثل ترامب حالة الانقلاب على ما بعد الحداثة التي جاء بها جورج بوش الإبن، والتي كانت تنادي بالفوضى وتعتبرها أمراً طبيعياً. اليوم ترامب يعود إلى السياسة الواقعية التي انقلب عليها بوش ومن بعده أوباما. والسؤال هل هذا ممكن في منطق التاريخ وفلسفته؟. يريد ترامب العودة إلى ما يشبه حالة الحداثة التي قوامها الدول الممسوكة، والعلاقات الدولية المعروفة والواضحة، والتي فيها صفقات ومرابح. لكن لا يجب أن نتفاءل كثيراً بالعودة إلى مرحلة الحداثة. ربما نشهد حالة هجينة Hybrid وهي حالة تجمع الحداثة، أي علاقات السيادة والواقعية والمصالح، مع حالة الفوضى والعماه Chaos . في ظل هذا الواقع، لا نستطيع أن نحدد بدقة إلى أين ستذهب الأمور. قد لا يرضي هذا التواقين إلى وصفات سحرية كلاسيكية. لقد بدّلت المؤسسة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية نمط تفكيرها منذ مطلع الألفية تقريباً. انتقلت من السياسة الواقعية إلى مزيج من الإيديولوجيا والفوضى واللعب بالتوازنات الدولية ومحاولة إلغاء السيادات. هذه المؤسسة تواجه اليوم ترامب الذي فاز خلافاً لرغبتها. سوف يكون أمامها ثلاثة احتمالات: - الاحتمال الأول متفائل وهو يقضي بأن تنصاع للتغيير الذي حدث في الولايات المتحدة الأميركية مع قدوم ترامب، وتقبل بالأمر الواقع. - الاحتمال الثاني هو أنها ستقاومه مقاومة عنيفة، وقد نشهد حوادث دراماتيكية غير متعيّنة سلفاً، كانفصال بعض الولايات، وحالات فوضى داخل أميركا، أو بروز "ربيع أميركي" أو اغتيالات رئاسية!. - الاحتمال الثالث أن تذهب المؤسسة العميقة إلى محاولة التفاهم مع ترامب، بما يمكن أن نسمّيه بالـ complementary، أي التتام أو التضايف. بمعنى أن تقبل بالمتغيّرات التي حدثت، وتزج له بعض الشخصيات ووجهات النظر التي يمكن أن تؤدي، إما إلى عرقلة مشروعه، أو إلى التزاوج بين المشروعين، المشروع السيادي والمشروع الفوضوي. هذا ما يُفسّر التصريحات المتناقضة التي سمعناها من ترامب حول سوريا. فبعد أن أعلن أنه لا يعادي النظام السوري وأن أولويته محاربة داعش، عاد وتحدث عن مناطق عازلة، الأمر الذي يمكن تفسيره بأنّ هناك اقحاماً حدث من قبل المؤسسة العميقة في الولايات المتحدة لأفكار من هذا النوع، تحت عنوان مراضاة تركيا مثلاً لمحاربة داعش.
سوريا في الصراع على مصادر الطاقة
نتحدث هنا عن خط الغاز القطري على سبيل المثال، أو ما يُهيئ له ولم يُفتح ملفّه حتى الآن، وهو خط غاز الربع الخالي في المملكة العربية السعودية.
عندما تكون هناك مناطق عازلة، سيكون بالإمكان الاستفادة منها لاحقاً
كمناطق كانتونات مرور خطوط غاز. هذا ما يتراءى وسط القلق العارم، رغم كل الادعاءات
حول وحدة سوريا التي تتحدث عنها واشنطن وحلفاؤها.
يُخشى أن تكون هذه الفكرة غايتها وضع قسمة جيوبولوتيكية غازية في المنطقة بناء على الصفقة التالية: لكم أيها الروس استثماراتكم في شرق المتوسط ولنا تمرير خطوط الغاز كما نشاء (التفاصيل الكاملة في الجزء الثاني).
عودة إلى لعبة التوازن.. دهاء كيسنجر
كيف ستواجه أميركا القوتين الصاعدتين روسيا والصين؟ من المعروف بأنّ هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي السابق كان ثعلب السياسة الأميركية. استخدم كيسنجر خلال سبعينات القرن الماضي لعبة توازن القوى محاولاً استغلال التناقضات القائمة بين موسكو وبكين. عندما تولى الدبلوماسية الأميركية قام بلعبة. انفتح على الصين، التي كانت غير معترف بها سابقاً من الولايات المتحدة. هدف من وراء ذلك إلى ترسيخ التباين بين الصين وبين الاتحاد السوفياتي آنذاك. بعد ذلك بعامين، قام بلعبة موازية وهي الانفراج مع السوفيات. بعدئذ تم توقيع معهم على اتفاقيتي سالت-1 وسالت-2، ووظف ذلك لمحاولة ضرب الصين. من الواضح أن ترامب ليس لديه توجه لهذه اللعبة الآن. ولكن، المؤسسة العميقة تدفعه باتجاهات يمكن أن تضر بالعلاقة بينه وبين بوتين لاحقاً. هذا احتمال قائم. لكن الأمور ليست بهذه البساطة. من دون "يالطا" عالمية جيوبوليتيكية نفطية غازية وخطوط غاز، لا يمكن أن يستقر العالم ولا المنطقة العربية. أسباب الاستقرار غير متوفرة اليوم. حتى وإن حدث فالصين ليست جاهزة، وواشنطن تسعى لمواجهة معها. كيف يمكن للتفاهمات أن تحدث؟ الصورة ليست وردية.