بوتين المحترف... تسديدات استراتيجية
يسعى بوتين إلى ترسيخ زعامته وتعزيز موقع روسيا في النظام العالمي. يريد أن يتم التعامل معه بالمساواة من قبل واشنطن والصين. ستبقى موسكو عام 2017 منخرطة في شؤون الشرق الأوسط. ستستغل قدوم ترامب إلى البيت الأبيض، وستحاول أن تنتزع اعترافاً بدورها. في سبيل ذلك لا بدّ أن تحقق مجموعة شروط، أولها تعزيز اقتصادها. التحديات والفرص أمام روسيا خلال 2017 في قراءة مستندة إلى آراء مدير مركز كارنيغي في موسكو ديمتري ترينن، ضمن ملف "2017.. عالم يتحوّل".
ترميم القوة ومفتاح الاقتصاد
لكنّ العالم بدأ فعلاً ينتقل من مرحلة النظام أحادي القطبية. مرحلة كانت فيها الولايات المتحدة تدير الأمور بحيث أحدثت تطوراً وعالجت قضايا، واختارت ألا تحل مشكلات معينة. أميركا لاتزال في موقع متفوق، وهي الأقوى في العالم منذ وقت طويل، لكنها لم تعد مسيطرة كما كانت في السابق. الصين تزداد قوتها. وروسيا ترمم قوتها بطريقة ناجحة من موقعها كقوة عالمية، ولكنها لا تنافس كالسابق من أجل الهيمنة. الآن روسيا تهتم بمصلحتها الوطنية المرتبطة بالنظام العالمي. ولكن السؤال هل ستتمكن من بلورة قوة اقتصادية لتقوم بدورها العالمي؟
المسألة الأكثر أهمية
المشكلة معروفة، ولكن الغموض يتمحور حول أي سياسة يجب أن تتبع لتطوير الاقتصاد. سينصب الاهتمام خلال هذا العام حول اختيار السياسة الاقتصادية. في السابق حاول بوتين القيام بعملية إصلاح لكنها توقفت بعد سنوات قليلة. انصبّ تركيزه على توحيد السياسة الداخلية بدلاً من الإصلاح. لكن هل ستتمكن موسكو من إجراء إصلاح بسهولة في ظلّ العقوبات المفروضة عليها؟ العقوبات الغربية ليست عقبة كأداء أمام الاقتصاد الروسي. المسألة الأهم هي اعتماد روسيا على السعر العالمي للنفط والغاز. بوتين مقتنع أنه حان الوقت كي يقلص اعتماده على قطاع الطاقة. تبعاً لذلك يأتي الاقتصاد في مقدمة التحديات التي تنتظر روسيا في العام الجديد، والحصول على نموذج اقتصادي جديد للتنمية. الشعب الروسي ليس سعيداً. لقد اختبر مستويات معيشية غير جيدة. والمشاكل الاقتصادية مرتبطة بالمشكلات الاجتماعية. ولكن ذلك لا يعني أنه يوجد الكثير من الاضطرابات الاجتماعية. التحدي الآخر صغير نسبياً ولكنه هام: خلال ربيع 2018، ستشهد روسيا انتخابات رئاسية. يتمتع بوتين بشعبية كبيرة منذ الثمانينات وهي لا تتراجع. هناك بعض التحديات السياسية، وبوتين متنبه لها. السخط الاجتماعي مرتبط بالمشاكل السياسية. على المستوى العالمي، هناك أمور كثيرة غير مؤكدة، بدءاً من انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة، والتدخل الروسي في الشرق الأوسط. انخرطت روسيا عسكرياً في سوريا منذ عام 2015، آخذة بعين الاعتبار أن التدخل العسكري سيكون محدوداً: سرب من عشرات الطائرات، صواريخ مبرمجة. لا يوجد تدخل عسكري ضخم. الخسائر التي مُنيت بها موسكو في سوريا محدودة، ولكن كل خسارة يتم تداولها على نطاق واسع. التحدي هنا هو القدرة على فعل شيء ما في سوريا. في أوكرانيا، المشكلة لم تُحلّ بعد وستبقى عالقة لمدة طويلة. يوجد انتهاكات متكررة لوقف إطلاق النار، ما يزيد الوضع حساسية.
عالم جديد.. اللاعبون الأساسيون
ترامب يقول إنه يريد أن يركز على محاربة داعش، وأن يتعاون مع من يحاربونها. روسيا تقدم نفسها على أنها أحد هؤلاء الذين يقاتلون داعش. وبالتالي قد تكون روسيا شريكاً هاماً في محاربة التنظيم الإرهابي. وقد يكون هناك تعاون بين أميركا وروسيا في سوريا. مقابل روسيا وأميركا تبرز الصين باعتبارها قوة اقتصادية عالمية. هي تتحول إلى قوة جيوسياسية في أوراسيا. استراتيجية الصين "حزام واحد طريق واحد" تهدف إلى توسيع هيمنتها السياسية في أماكن عديدة مثل جنوب شرق آسيا، وجنوب بحر الصين، ووسط آسيا. لا تتدخل الصين في مشاكل الدول الأخرى، على عكس أميركا وروسيا. لديها حضور متواضع في سوريا. بدأت تبني قواعد عسكرية بعيدة من أراضيها. أول قاعدة لها كانت في جيبوتي. لا تتخفى الصين وراء روسيا. عندما تستخدم الأخيرة الفيتو في مجلس الأمن، فإن بكين تواكبها وتتخذ موقفاً. لديها صوتها، ولكن أسلوبها في التدخل يتخذ شكلاً تدريجياً.
التوازن مع أطراف متناقضة
بوتين اتخذ قراراً بالتدخل لأسباب عدة. من هذه الأسباب التعامل مع الشرق الأوسط، ومحاربة داعش. لكن السبب الأهم هو اكتساب قوة عالمية. إذا تمكن بوتين من التعامل عسكرياً وسياسياً مع الشرق الأوسط، ستكتسب روسيا قوة عالمية. بالنسبة إلى بوتين لن تكون روسيا شيئاً إذا لم تصبح قوة عالمية. تريد موسكو أن يتم التعامل معها بالمساواة من قبل واشنطن والصين وباقي العالم. روسيا ترى أنه لا يمكن اختصار الإرهاب بداعش. هناك أيضاً مجموعات أخرى متشددة. هي تفضل النظام القائم في سوريا بدلاً من تلك المجموعات. الظروف تلعب دوراً كي تتخذ روسيا من أحد الأطراف حليفاً لها. هي لن تتخلى عن حلفائها في ظلّ وجود اهتمامات مشتركة. يسأل البعض عن سرّ التوازن في علاقاتها مع أطراف متناقضة في المنطقة. تعقد تحالفات مع إيران، وتتعاون مع مجموعات كحزب الله، في حين لديها علاقة جيدة مع إسرائيل. الجواب هو أن الروس يعملون وفقاً لما يخدم مصلحتهم الوطنية. هم يسعون إلى تحقيق نوع من الاستقرار في المنطقة من خلال الموازنة بين مصالح الأطراف فيها، وبالتالي يريدون تأمين استقرار وفقاً لما يخدم مصلحتهم الوطنية. لا يريد الروس فرض أنفسهم على البلاد الأخرى. لايدّعون أنهم يريدون أخذ مكان الولايات المتحدة أو أن يصبحوا القوة المهيمنة. يخاطبون الآخرين بناء على مصالحهم. يستخدمون لغة جيوسياسية في الحوار، بعيداً من خطابات حقوق الانسان. بالتالي هم على علاقة حسنة مع إيران وإسرائيل والأتراك والأكراد، وغيرهم.
مع إيران.. حلف أم تفاهم ظرفي؟
في الواقع كل هذه التوصيفات صحيحة ولكن بنسب مختلفة. روسيا وإيران حليفتان في سوريا، تحاربان جنباً إلى جنب. ولكن خارج سوريا، لا تشكلان تحالفاً. تدعم طهران مجموعات في اليمن، فيما تقف موسكو على الحياد. تهتم روسيا لأمرين في سوريا: القضاء على المتشددين الذين قد يشكلون خطراً عليها، والحصول على اعتراف أميركي بدورها العالمي، فيما تتخذ موقفاً محايداً تجاه الصراع السني-الشيعي. العلاقة القائمة بين طهران وموسكو كانت صعبة جداً على مدى التاريخ. لنتذكر أنّ روسيا احتلت إيران لفترة من الزمن. لكن كلتاهما تنظران إلى الأمور بطريقة براغماتية. هذا ما طبع سلوكهما في الأزمة السورية. إذاً العلاقة بينهما صعبة. هناك حذر من كلا الطرفين. الروس ينظرون إلى إيران كقوة أساسية في المنطقة، موجودة منذ عقود. طهران ستصبح دولة أقوى في المستقبل. روسيا تأخذ إيران على محمل الجد. هما دولتان جارتان وتسعيان إلى علاقات جيدة.