الحكومات المتعاقبة ساهمت في تقهقر الحركة النقابية في لبنان (1/3)

تواجه الحركة النقابية في لبنان تحديات جمّة ، ويحاول الميادين نت عبر استعراض أبرز محطّات العمل النقابي في لبنان تسليط الضوء على واقع الحركة العمالية في ظلّ تراجع دور الاتحاد العمالي العام، وذلك من خلال هذا التحقيق في 3 حلقات وفيه مقابلات مع نقابيين عاصروا الفترة الذهبية للعمل النقابي وآخرين مُخضرمين لا يزالون يخوضون غِمار النضال الاجتماعي.

الحركة النقابية اللبنانية نجحت قبل الحرب في تحقيق مطالب كثيرة للعمال والطلاب
قبل انتصار ثورة أكتوبر البلشفية في روسيا القيصرية بعشر سنوات عرف لبنان الذي كان بغالبيّته  جزءاً من السلطنة العثمانية ظهور حركة نقابية اتّكأت على حركة الفلاحين التي عرفها جبل لبنان منتصف القرن التاسع عشر، ويؤكّد النقابيون الذين عاصروا النقابيين الأوائل وناضلوا في صفوف الاتحاد ومنهم النقابي أديب أبو حبيب "أن الحركة النقابية ومنذ تأسيسها في العام 1907 بدت كحركة مستقلّة ولكنها عانت في الفترات اللاحقة للتأسيس الكثير من الانقسامات الحادّة، ورغم ذلك حقّقت إنجازات كثيرة.

وذكر أن سلطات الاحتلال  الفرنسية لم تعارض  إنشاء اتحاد عمالي عام 1921، سرعان ما تحوّل إلى حزب سياسي تحت إسم حزب العمال، قاده برجوازيون ليبراليون حرصوا على توطيد التعاون الطبَقي وعلى التفاهم مع سلطات الانتداب. إلا أن تأسيس حزب الشعب (الشيوعي) عام 1924، وطرح أول برنامج عمّالي في احتفالات الأول من أيار عام 1925، كانت عوامل أفضت إلى انطلاق الحركة العمالية النقابية في مواجهة سلطات الاحتلال على المستويين الوطني والاقتصادي عن طريق الإضرابات والمواجهات العمالية التي لقيَ خلالها بعض العمّال حتفه، إلى أن أرغمت السلطة على إصدار قانون العمل عام 1946.

 

النقابي مُرسل مُرسل (85 عاماً) يستعيد ما يُسمّيه أيام العزّ في لبنان عندما كانت النقابات تفرض مطالبها على الحكومات منذ منتصف خمسينات القرن الفائت، ويقول للميادين نت: " أول تظاهرة شاركتُ فيها كانت في العام 1953 عندما كانت النقابات تطالب بإقرار الضمان الاجتماعي إسوة بدول أخرى، وكانت القوى الأمنية تمنعنا من التظاهر وحتى تُحظّر إقامة الاحتفال في عيد العمّال".

مُرسل يفخر بأن النقابات استطاعت بعد عشر سنوات من التظاهر إرغام السلطة على إقرار نظام الضمان الاجتماعي الذي بدأ العمل به عام 1965 ويُضيف:" مطالبنا الأخرى كانت تصحيح الأجور وعدم رفع الأسعار، وكانت التظاهرة الأضخم تلك التي  عُرِفت بتظاهرة الرغيف وكانت  من أهم التحرّكات المطلبية التي قامت بها الحركة النقابية، فالتظاهرة  نظّمها الاتحاد الوطني لنقابات العمّال والمستخدمين ( تأسّس عام 1966 )  في 23 آذار / مارس عام  1974 وكانت رفضاً لزيادة سعر ربطة الخبز من 40 الى 45 قرشاً، وصفيحة البنزين من 7 إلى 7,25 ليرات. وبحسب النقابي أديب بو حبيب فإن المتظاهرين في ساحة بشارة الخوري (قرب وسط العاصمة بيروت)  بمشاركة نحو 50 ألف متظاهر من كل المناطق الصناعية في لبنان، وتميّزت بحُسن التنظيم وانضباط المتظاهرين، حتى وصِفت التظاهرة بـ"الراقية".

عمّال المطابع : نواة العمل النقابي

شكّل عمّال المطابع خلال فترة الستينات والسبعينات العصب الأساس للحركة النقابية علماً بأن أول نقابة لعمّال المطابع تأسّست عام 1913 وترأسها لاحقاً الصحافي ونقيب المُحرّرين نسيب المتني الذي اغتيل خلال ثورة 1958 التي قامت ضدّ الرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون وإصراره على إلحاق لبنان بالمعسكر الغربي وحلف بغداد  نظراً إلى أنهم كانوا على تماسٍ مباشر مع السياسة، لا سيما أن بيروت استقطبت دور النشر وكانت عاصمة الصحافة العربية وتصدر فيها العشرات من المطبوعات اليومية والأسبوعية والشهرية ، وفي السياق يتذكّر مُرسل أن عمّال المطابع شكّلوا واحدة من أهم النقابات في لبنان ولم يكونوا جميعهم من اليساريين أو الشيوعيين، إنما كان في صفوفهم عمّال ونقابيون من حزب الكتائب ومن الكتلة الوطنية ومن الحزب التقدّمي الاشتراكي وآخرون،

في موازاة الحركة العمالية نشط الطلاب في لبنان ونظّموا التظاهرات التي  كانت تلتقي في الكثير من أهدافها مع المطالب النقابية، وشهدت فترة السبعينات نشاطاً لافتاً للحركة الطالبية لا سيما بعد انتفاضة الطلاب في فرنسا في أيار / مايو عام 1968 .

أما الحركات الرديفة لتحرّكات الاتحاد العمّالي والنقابات كانت تحرّكات الصيادين قبل الحرب، ولعلّ تظاهرة صيادي صيدا كانت الأبرز وخلالها أصيب مؤسّس التنظيم الشعبي الناصري معروف سعد في 26 شباط عام 1975 ، ومن استشهاده ما يضعه المتابعون للأوضاع اللبنانية إنه كان بمثابة أحد أسباب الحرب في لبنان لا سيما أنه عُرِف بمواقفه العروبية ومناهضته لليمين اللبناني ، ويروي الصيّاد نبيه بوجي الذي عايش الشهيد سعد ذكرياته عن ذلك "اليوم الأسود" حيث كان يقف إلى جانبه ويتأبّط يده لحظة اغتياله، فيقول: "إن أقطاب الحركة الوطنية ( المتحالفة مع منظمة التحرير الفلسطينية) في ذلك الحين كانوا يستشعرون خطراً ما تعدّه السلطة لضرب الفريق الوطني، فأوفدوا القيادي الشيوعي محيي الدين حشيشو وآخرين لثنيه عن المشاركة في التظاهرة لأن "شيئاً ما يحضّر ضدّنا، وحجّتك معك، وأنت مريض منذ ثلاثة أيام، ودرجة حرارتك أربعون، وكل العالم تعرف ذلك" قال حشيشو، لكن معروف أجابه: "شو بدّك بآخر هالعُمر أخذل المعتّرين".

وأغلقت سنوات الهدوء أبوابها على واقع نقابي مميّز ليدخل في سبات خلال الحرب التي استمرّت 15 عاماً، ولكن سنوات الحرب لم تثنِ النقابيين عن التظاهر رفضاً للحرب . (يتبع)