محمّد علي شمس الدين: مُتعة النص القَلِق
منذ أول نص خطّه، بدأ الشاعر اللبناني محمّد علي شمس الدين بتشييد علاقة خاصة بكل ما كتبه ويكتبه. هذه العلاقة وإن كانت تقوم على الرقابة الصارِمة، حتى يستحيل كل نص جديد له بمثابة "مفاجأة"، فإنها تنطوي أيضاً على ما هو حسّي ووجداني. ذلك أن ما يربطه بأدوات الكتابة التقليدية الكثير. ملمس الورق، القلم، الحبر السائل الأسود، كلها عناصر أساسية في تكوين صورة المخطوط الورقي القَلِق الذي يصوغه شمس الدين قبل أن يبصر النور. لم يطلّق صاحب "قصائد مُهرّبة إلى حبيبتي آسيا" الورق. الحياة فيها. دخوله إلى الكتابة على الحاسوب أو الكمبيوتر يقتصر اليوم على تدوين جملة كان يكتبها سابقاً سريعاً على غلاف علبة سجائر لئلا تضيع، وكذلك تبييض المسودّة تحضيراً لنشرها. أما الفيسبوك فليس أكثر من مجرّد منصّة للأفكار والنصوص السريعة. القصائد والمقالات التي تأكل عند راحتيّ شمس الدين مثل طير، مسرحها الورق. الورق فحسب.في ما يلي، المقابلة التي أجراها معه الميادين نت.
متى بدأت ببناء علاقتك بالنص؟
منذ نصي الأول لي علاقة وجدانية بما أكتب. كما أني أميل لأن تكون هذه العلاقة قائمة على الرفض أكثر مما هي مبنية على القبول. أنا ممنّ يمزّقون كثيراً مما يكتبونه. وحول هذه النقطة تحديداً، أستطيع القول إنني حين أستعيد ديواني الأول "قصائد مُهرّبة إلى حبيبتي آسيا" (1975)، أستطيع القول إنه بالنسبة لي كأنه مكتوب في هذه اللحظة. لماذا؟ لأني كتبت آلاف التجارب قبل نشر ديواني الأول. فأنا شديد القسوة مع ما أكتب وأعدم بسرعة ما يعتريني شعور بأن فيه ضعف. في الكتابة أنا ميزان نفسي.
ألا يُعتبر هذا ظلماً للنص؟ أن يخضع دائماً لما يشبه المحاكمة؟
لا ليس ظلماً. فأنا أكتب مع رقابة صارمة. هاك مثال عن مجرى حياتي الكتابية. قد أكتب شيئاً يعجبني ثم ينتابني شعور بأنه سبق لي أن خططت مثله، أي أني استعرت من نفسي، فأعدم ما أكتب. قد أكتب شيئاً يعجبني أيضاً، ثم أجد أن جملة ما منه قد استخدمها غيري قبلاً، فأعدمها. هذه مسائل دقيقة وهي من طقوسي في الكتابة. ومن كتبوا عن تجربتي الشعرية وآخرهم الشاعر الكبير الراحل أنسي الحاج، قال ما معناه إن كل ديوان لمحمّد علي شمس الدين هو "مفاجأة جديدة".
ما زلت تكتب مقالاتك وقصائدك على الورق، تاركاً للنصوص السريعة جداً أن يكون مسرحها منصّة الفيسبوك، لماذا الاعتكاف عن الانتقال نهائياً إلى الكتابة على الكمبيوتر؟
شمس الدين: أخاف ألا يكون النص قلقاً
أكتب على الفيسبوك الأشياء السريعة والتي لا تحتاج لأكثر من كتابة لمرة واحدة. أما الأشياء المُعذّبة والعَذبة فأكتبها على الورق. لو شهدت مسودّة لإحدى قصائدي فلن تستطع قراءتها، باعتبار أن هذه المسألة لا يوفّرها لي الكمبيوتر. الشطب والتدوير واللعب بالكلمات ونقلها من مكان إلى آخر لا يوفّرها لي إلا الورق. الكتابات التي أعوّل عليها أكتبها على الورق، بما فيها المقالة التي أكتبها كأني أنظم قصيدة. فأنا لا أتعامل بخفّة مع المقالة أبداً. ذلك أن ما أكتبه وأنشره مسؤول عنه. وأنا حين أكتب مقالة حول ديوان أو رواية أو أيّ موضوع آخر، فإني قد أعيد تنشئة النص أكثر من مرة. مؤخراً، نشرت فصولاً في صحيفة السفير اللبنانية بعنوان "مطالعات"، وهي للمناسبة عنوان لرواية أقوم بكتابتها. كل مقالة – فصل مما نشر وسينشر أكتبها أكثر من مرة. الكمبيوتر لا يوفّر لي حرية التعامل مع الكلمات. فالمقالة لها بداية ونهاية وقوام وسياق. لها إيقاع وعبارة. هذا النوع من الكتابات هو ما أتبنّاه في النهاية. الكتابة التي تؤسّس على العلاقة بين النص والورق، وهو ما أحتاجه.
هذا يعني أنك ربما تخاف فقدان العلاقة الوجدانية التي تربطتك بالنص، في ما لو انتقلت نهائياً إلى الكمبيوتر؟
نعم. أخاف ألا يكون النص قلقاً. مطلق أي نص أكتبه بقلق. القلق هنا له صورة. أنت حين تنظر إلى أية ورقة لي سوف ترى تخطيطات القلق وأشكاله. مثل الكلمات المبعثرة والمشطوبة والمدسوسة بين كلمتين، أو المنقولة من رأس الصفحة إلى ذيلها. هذه الحركة بالنسبة لي، بعد التجربة، لا تقدّمها لي غير الورقة. هذا تعاملي الشخصي مع هذين العالمين، الورقة والقلم. وبالمناسبة غالباً ما لي طقوسي في الكتابة. بمعنى أني لا أرغب في الكتابة بالحبر الناشف بل أكتب بالحبر السائل والأسود تحديداً. حتى أكاد أقول إنه لا تستقيم عندي الكتابة إلا بالحبر. فأنا خطي بالحبر أجمل، وحتى لو رغبت بشطب الكلمة أكتبها بجمالية أولاً ثم أشطبها. بهذا المعنى العلاقة مع الحبر والورقة علاقة حسيّة نفسية، وعلاقة لمسيّة جمالية. الحاسوب لا يؤمّن لي ذلك. فكل خطوطه متشابهة تقريباً، وهو أقل من أن يحافظ على علاقتي بحواسي وإحساسي بالأشياء. أشبّه هذا بعلاقة الشاعر بنصه بوصفها كتلة من اللغة تخترقها الموسيقى بأنواع الشعر. فأنت إذ تحفر قلباً وتكتب قصيدة على جذع شجرة أو أن تفعل ذلك على ورقة، هو غيره عندما تكتبه على الكمبيوتر. الكتابة على الحاسوب مُيَسّرة بلا شك، لكنها لا تتح لك أي ارتباط عاطفي بها. الكمبيوتر ذاكرة سريعة ليس أكثر، لكنه مع ذلك جميل جداً. حيث استطاع أن يختزل التاريخ في علبة سريعة. ولذلك لا دخل للكمبيوتر بإبداع بيت واحد من الشعر. هو وسيلة علمية لتطوير وسائل الكتابة وحفظ الذاكرة فحسب.
وماذا تخاف أن تخسر أيضاً؟
الكمبيوتر يؤمّن لي سرعة الحصول على المعرفة. هذا جل ما يستطيع القيام به. هذه وظيفته. لكنه لا يؤمّن لي التفاعل النقدي والقلق مع النص. قد يلعب دور ورقة أولية أحياناً، وهو ما أفعله عندما مكّنني من الاستعاضة عن كتابة جملة ما على غلاف علبة سجائر. لكني قطعاً لم أجلس مرة أمام كمبيوتر لكتابة قصيدة. حتى أني لم أحاول لأني أعرف سلفاً أني لن أكون في مكاني. أضف إلى ذلك، أنت إذا فتحت كتبي في المكتبة وأنا عادة ما لا أسمح لاصدقائي بأن يطلعوا على مكتبتي، لأني غالباً ما أقرأ في اللحظة نفسها. أقرأ رواية وأضع ملاحظاتي بما فيها ما رأيته من صورة الراوي في روايته. ما أقوم به هنا هو قراءة محاورة، مع ملاحظة وجدال. الحاسوب لا يؤمّن لي هذا أبداً.
هل ترى أن هناك ارتباطاً فطرياً بين الكاتب وبين الورق؟
لا أظن ذلك. الحاسوب هو أيضاً إبن الطبيعة. لا يوجد شيء ليس إبناً للطبيعة. لكن هناك جملة في الحب مثلاً قد يحلو لي حين أريد إيصالها لأمرأة ما، أن أحفرها على شجرة قريبة من بيتها. فكتابة جملة مثل "أنحني ألف عام لأصغي إليكِ"، عندما أكتبها على شجرة ليست كما أكتبها على الورقة وغيرها على الكمبيوتر. الأداة التي تحمل النص ليست تماماً محايدة كما يتصوّر البعض. العلاقة حسية نفسية كما سبق وذكرت. من خلال لمسك للقلم واستعمالك الحبر والورق.
برأيك، ماذا خسر من انتقل نهائياً إلى الكتابة على الكمبيوتر؟
الكتابة على الورقة تتيح فرصة أكثر للتشدّد مع الكتابة، في ظل الخفّة والسرعة في الكتابات على الفيسبوك وغيرها من النصوص الالكترونية. هناك سرعة. أي إنسان يخطر في باله فكرة سرعان ما يدوّنها على الفيسوك ويرسلها. في هذا الأمر خفّة واضحة. الكمبيوتر مسرح لنصوص البوح السريعة. لم يعد هناك تشدد قوي مع النص. النصوص صارت طيّارة وغير مسؤولة. باعتقادي أن جميع أصدقائي الكتّاب والشعراء يكتبون نصوصهم على الورق. لا أعرف أحداً كتب قصائده على الحاسوب بداءة. أما متعتي فهي في رؤية نصي القلق. الاستجابة التي تقدّمها الورقة وملمسها. الحبر ولونه.