جيش التحرير.. باسل المنفرد
كان بوسع باسل تسليم نفسه للجنود بمجرّد محاصرتهم للمنزل، ولكنه اختار إطلاق النار عليهم حتى قبل ندائهم عليه لتسليم نفسه وما كان أحد سيلومه على ذلك، وخروجه من السجن في أية صفقة قادمة للمقاومة شبه مضمون، ناهيك عن إمكانية حصوله على حكم منخفض إذا كرّر تجربة صموده في التحقيق
هذه كلها أشياء مهمة، كان الباقي فينا وبيننا باسل الحبيب يُجيدها، ولكن هذه المُقاربة توقعنا في فخّ اعتبار قرار باسل بحمل السلاح واستخدامه هو فعلٌ رمزي شخصي محوره هو إثبات مصداقية المُثقّف أو إعادة محاكمتنا لمصداقية ما نقول، وهو ما لا أتمنّاه للشهيد، ولا أصدّقه، فمن سأل ذاته وسألني مرات عدّة " هل العنف ضرورة وجودية؟" بالتأكيد لم يكن يمضي للاشتباك لإثبات وجهة نظره في جدل ما، بل كان يقدّم مساهمته في الصراع مع العدو الصهيوني، للمساهمة بإلحاق الهزيمة بهذا العدو، وتحرير فلسطين كل فلسطين، لننشغل بما قدّمه باسل في هذا الإطار إذن، أي أن فعله لم يكن عنفاً رمزياً فحسب، بل كان تخطيطاً لتنفيذ فعل عُنفي مُسلّح مؤذٍ لهذا العدو في إطار معركتنا ضدّه.
وإذا كان باسل يطالبنا بالنظر للمقاومة بوصفها " جدوى مستمرة"، وللعنف كضرورة وجودية، فإن قصر نظري يُلزمني بتناول الأهداف العملانية المباشرة التي حقّقتها محاولة باسل العسكرية، وصموده واستشهاده، والعودة لتبشيره بالانتفاضة (الحالية)، وللدور الذي لعبه فيها منذ بدايتها، ونقاشه لبرنامج أهدافها السياسي والعملياتي، والذي لخّصه في إجبار العدو على الانسحاب من الضفة الغربية من دون قيد أو شرط " وأتجرّأ على إعادة تذكّر اختلافي معه على ذلك لاعتباري الضفة ساحة استنزاف ضروري للعدو".
الرجل الذي اختار لمعركته الأخيرة بندقيتين إحداهما خصّصها للالتحام من مسافة صفر مع جنود الاحتلال "بندقية كارلوستاف سريعة الطلقات قصيرة المدى"، لم تكن تنقصه المعرفة العسكرية وهو الذي اجتهد في تحصيلها من كل سِيَر الشهداء والمقاتلين، التي ما كان يغذّينا بها لنتسلّى بل لنقاتل معه في معركته، التي اجتهد وبحث طويلاً لإعداد نفسه لها، في ضوء انهيار البنى التحتية لمراكمة خبرات المقاومة في الضفة الغربية المحتلة، إي أن باسل كان معهد التدريب العسكري لنفسه ولغيره، وهذا جهد نوعي توظف له المقاومة في غزّة او لبنان المئات من كادراتها، قرّر باسل أن يكوّنهم وحده ووصل إلى نتائج ممتازة في هذا الجانب.
حين استمع باسل إلى " عالبارودة وأنا بدي بارودة" لم يكن يحثّنا على اقتناء السلاح فحسب، بل كان يبحث عن بندقية بالفعل، و استطاع الحصول على السلاح والاحتفاظ به مرتين وربما أكثر في الضفة المحتلة، رغم أن السائد هو أن شبكات بيع السلاح في الضفة مُخترَقة أمنياً وأنها تبيع السلاح لمن تعرف سوء نواياهم في استخدامه، تحت رقابة الاحتلال وأجهزة أمن السلطة، وإن المسافة الزمنية بين حصولك على السلاح واعتقالك لا تتجاوز بضعة ساعات في أغلب الأحيان، ليتغلّب على غياب شبكة إمداد للمقاومة في الضفة.
وحين عجزت القوى الفلسطينية عن كفالة عائلات الشهداء، قام مع رفاقه بجهد شعبي نجح في حالات عدّة بتغطية هذا القصور. قتل عناصر أجهزة أمن السلطة باسل ثلاث مرات توقف فيها نبضه خلال تحقيقهم معه، ولم ينتزعوا منه حرفاً واحداً، ليسقط وهم آخر حول انتهاء زمن الصمود في أقبية التحقيق سواء تلك التابعة للسلطة أو للاحتلال.
وفقط من باب الحمق، قد نظنّ أن السلطة اكتفت بتوجيه تهمة حيازة السلاح إليه عن طيب خاطر منها، ولكن هذا السلاح هو ما وجدوه في حوزته لحظة اعتقاله، وتورّع عن استخدامه دفاعاً عن نفسه ضدّهم للأسف الشديد، لينهض ويخوض إضراباً عن الطعام مؤكّداً على قدرة المقاتل على القتال من دون سلاح ومن داخل زنزانته.
المطاردة .. لن يكون هذا سهلاً عليكم.
في انتفاضة 1987 كان جنود الاحتلال يحطّمون أبواب المنازل حين اقتحامها ما دفع البعض من الأهالي لترك أبواب بيوتهم مفتوحة كي لا يحطّمها جنود الاحتلال، هذا السلوك تحديداً هو ما تصدّى له باسل، تركنا للباب مفتوحاً وتوفيرنا مشقّة تحطيم الباب على جنود الاحتلال توفيراً لبعض الخسائر، وهو ما نفعله منذ توقيع اتفاقية أوسلو وتطالبنا قيادتنا السياسية بفعله، أي التحوّل إلى عبيد خاضعين " مؤدّبين" ممتثلين يسهل السيطرة عليهم.
هذا مهم بالنسبة لمن يعلم إشكالية نقص الموارد البشرية لدى الكيان الصهيوني منذ نشأته ومحاولاته الدؤوبة للاستعاضة عن ذلك بسياسات التطويع أو بالجهد الأمني الالكتروني، باسل حين اتّخذ قراره بالاختفاء والمطاردة فقد اختار إشغال ضبّاط مختّصين في أمن الاحتلال وجنود ودوريات وموارد تقنية، وعشرات من منظومة أمن السلطة الرديفة للاحتلال، لمدة ستة أشهر بأكملها، وهذا يعني إعطاء فرصة لغيره من المقاتلين والمناضلين للمحاولة والقتال، ناهيك عن فتحه باب الأمل أمامنا في عودة تجارب الاختفاء الطويل وفي وجود حاضنة للمقاتل تمكّنه من الضرب والاختفاء مراراً وتكراًرا، " أي ان تعيش نيصاً وتقاتل كالبرغوث"، كان حين يطالبنا بالتمرّد وإعاقة جنود العدو يحاول إنفاذ استراتيجيته بمقايضة المساحة بالوقت، ولنسأل أنفسنا هنا إذا ما كان هناك 50 أو 100 أو 1000 مطارد في الضفة الغربية والداخل المحتل عام 1948 هل يستطيع العدو تكريس ذات القدرة القتالية في المواجهة مع غزّة أو جنوب لبنان؟
المعركة
قد نتوهّم أنه فعل ذلك لمجرّد إعطائنا درساً حول دور المُثّقف، ونواصل تضخيم أوهام الكتبة حول تمايز وأهمية دورهم، ولكنني أؤمن يقيناً اأه كان يُجيب على أحد أسئلته بأن العنف هو ضرورة وجودية وليست رمزية، ويشكّل ويدرّب جيشه ويخوض معركته التي أعدّ لها طويلاً، وبذلك اكتسب وجوده الخالد فينا، وألقى بوجهنا بمحاولة للإجابة على السؤال إذا كنا سننضم إليه في معركته المستمرة مع العدو، لا كجنود- كان يؤمن بالتنظيم الأفقي- بل كبراغيث تلسع كل مكان في جسد عدونا وتدميه حتى يسقط.