تجربة المرشد خامنئي في سجون الشاه

مذكرات المرشد خامنئي تشكل جزءاً من أدب السجون. ويمكن مقارنتها بما قاله مانديلا عن علاقته بالروائي النيجيري "تشنوا أتشيبي" الذي وصفه بأنه "الكاتب الذي انهارت جدران السجن في صحبته" أي بصحبة رواياته.

يتحدث كتاب "إن مع الصبر نصراً"في فصوله اللاحقة عن الإعتقالات المتعددة التي تعرض لها المرشد السيد علي خامنئي واستدعاء "السافاك" له مراراً ما بين عام 1962 حتى قيام الثورة في 1979.

ولا شك بأن هذه المذكرات والتي روى فيها ما حدث معه من قصص وحكايات ومواقف في اعتقالاته يشكل جزءاً من مرحلة التأسيس للثورة الإسلامية.

يقول المرشد "سجني الأول رافق زمن اعتقال الإمام الخميني وانتفاضة 15 خرداد، وسجني الثاني رافق وجود الإمام الخميني في قيطرية حيث زرته هناك بعد الخروج كما سأذكره في موضعه".

تم اعتقال المرشد خامنئي الأول في بيرجند - وهي عاصمة محافظة خراسان الجنوبية – وتم اقتياده لمركز الشرطة.

يروي المرشد خامنئي "لم أرى من قبل ذلك اليوم مركز شرطة. أدخلوني على ضابط شاب، فأخذ في تقريعي وتأنيبي بلهجة حادة وبأوداج منتفخة".. وهنا يجيبه المرشد بهدوء تام جواباً يشكل إشارة بليغة إلى سر انتصار الثورة الإسلامية في إيران "أنت لا تملك أكثر من إعدامي.. إفعل ما شئت، فأنا مستعد، لأني حينما خرجت من بيتي أعددت نفسي للموت، فلا تتعب نفسك".

ويتوقف المرشد عن التفاعلات التي حدثت جراء اعتقاله، حيث أخبره اَية الله التهامي وهو الرجل المتميز بين علماء بيرجند: "كان الناس متأهبين لمحاصرة مركز الشرطة من أجل إنقاذك من المعتقل، وكانوا على استعداد للإصطدام بالبوليس. والهيئات الحسينية كانت تراجعني بهذا الأمر".

ويبدو أن المسؤولين خافوا أن يحدث في بيرجند ما حدث في طهران. فالأوضاع في كل إيران كانت حبلى بحوادث جسام. فعقدوا اجتماعاً طارئاً لمجلس أمن المدينة ولهذا المجلس صلاحية إصدار حكم النفي، فأصدروا حكماً بنفي المرشد إلى مدينة مشهد.

ويخبرنا المرشد: "يبدو أن المسؤولين أرادوا أن يمتصوا نقمة الناس قبل النفي، فأطلقوا سراحي واشتراطوا علي أن لا أرتقي منبراً. كان الناس ينظرون إلي بتعاطف، وأنا كنت مسروراً بهذا الإنشداد العاطفي بين جماهير هذه المدينة".

ويروي المرشد خامنئي أن الإضراب بلغ مداه بين اعتقاله ونفيه (10 – 15) محرم وصار يحسب ألف حساب لكل شيء.

 فكل إيران في هذه اللحظة كانت تموج بحركة متفجرة بوجه السلطة، ففي طهران تحولت مجالس العزاء الحسيني إلى مجالس بكاء ثورية أرهبت الطاغوت، وفي 10 محرم ألقى الإمام الخميني في قم كلمته التاريخية التي كانت بداية النهاية لنظام الشاه.

خلال هذه الأيام – كما يقول المرشد – قدم محقق عسكري برتبة عقيد من مشهد إلى بيرجند وطلب أن يراني. وقال لي: سوف نرسلك إلى مشهد، لكن الأمور مضطربة هناك، واعتقل عدد كبير حتى لم يبق مكان في سجون مشهد. ولم أكن أعلم شيئاً عن المهمة التي جاء من أجلها.

ويضيف القائد: يبدو أن مهمة هذا العقيد كانت مقتصرة على إبلاغي كلامه المذكور، ولكن لماذا بعثوا شخصاً من مشهد ليبلغني هذا الكلام، بينما كان بالإمكان إبلاغه بواسطة عسكري من بيرجند. ثم لماذا برتبة عقيد؟.

تم نقل المرشد خامنئي إلى معتقل في مشهد وسلم للسافاك، ويحكي المرشد أنه كان في الطريق من بيرجند إلى مشهد يعود نفسه لاستقبال هذه اللحظات الرهيبة.

ولا ينسى المرشد يوم الإفراج عنه بعد أول اعتقال، ما قالته له والدته: إني فخورة بإبن مثلك، بعد أن استقبله الأهل أَحر استقبال. ويؤكد المرشد بأن "قولها هذا كان له تأثير في نشاطاتي على هذا الطريق".

يتحدث المرشد خامنئي في فصل "القلعة الحمراء" عن نشاطاته التنظيمية التي رافقت نهضة الإمام الخميني، لإرتباطها باعتقاله الثاني.

يقول المرشد: "أنشأنا خلال فترة النهضة منذ إنطلاقتها حتى خروجي من قم: مجموعة علماء قم وهي نفسها التي اتخذت بعد ذلك اسم "رابطة مدرسي الحوزة العلمية في قم".

ومنها مجموعة الأحد عشر، وكانت هذه المجموعة أهم التجمعات الحركية في قم يومذاك، وخطت لنفسها أهدافاً واستمرت بضع سنين. وكان من ضمن المجموعة هذه: هاشمي رفسنجاني، مصباح يزدي والشهيد الشيخ القدوسي الذي استشهد سنة 1982 في السنة الثالثة لإنتصار الثورة الإسلامية.

كان ثمة تجمعاً آخراً يضم بعض أعضاء المجموعة السابقة مضافاً إلى الشيخ الرباني الإملشي، والشيخ علي أصغر مرواريد، وكانت مهمته اتخاذ القرارات العملية بشأن أمور الدعوة، ومنها وضع خطة توزيع أفراد على المدن ليعتلوا المنبر في شهر رمضان الذي تلا "انتفاضة خرداد" من أجل فضح السلطة في ما ارتكبته من جرائم بمدينة قم. وكان في هذه الخطة الذهاب إلى "زاهدان" من نصيبي، حيث كان فيها اعتقالي وسجني الثاني".

تكشف هذه الفقرة عن معنى "أن الصبر يولد صبراً". فقد ذهب المرشد مسافة 1500 كيلومتر إلى "زهدان" للتبليغ الديني، ويرتقي المنبر لأجل شهر رمضان.

ويستأنف المرشد خامنئي رواية ما حدث معه: غادرت قم في يوم عصيب.. ركبت باصاً كان جل ركابه من طلبة العلوم الدينية الذاهبين إلى شؤون الدعوة. وانطلق الباص من قم متجهاً إلى "كرمان" حيث مقصده الأخير الذي يبعد ألف كيلومتر عن قم.

ويكمل المرشد: كان علي أن أواصل  الطريق في باص اَخر من كرمان إلى "زهدان" في مسيرة تبلغ 500 كيلو متر.

وصل المرشد ليلاً في الباص نحو "زهدان"، بعد أن بقي 3 أيام مع أصدقائه من العلماء. حيث استدل من المارة عن مسجد الشيخ الكفعمي.

ثم يبدأ المرشد خامنئي بسرد تفاصيل اعتقاله الثاني في زهدان بعد عودته من إفطار رمضاني وعودته إلى مسكنه في المسجد، "طرق الباب شاب أنيق في ملابسه.. سلم علي وقال: أنت فلان؟ قلت: نعم. قال: مدير الشرطة يطلبك. قلت: لماذا؟ قال: لا شيء، يريد أن يتحدث معك في أمور".

وأجابه المرشد: أنا أعرف معنى هذا الإستدعاء، إنه ليس من مصلحتكم. أنا مدعو لإرتقاء المنبر هذه الليلة. وإذا عرف الناس بأني معتقل فستكون العاقبة وخيمة.

ويضيف المرشد: الشاب بيّن لي أنه لا بد من مقابلة مدير الشرطة ولست مخيراً في ذلك. خرجت ووجدت الشرطة والجيش قد طوقوا المسجد.

ويستطرد المرشد بقوله: مدير الشرطة بدأ ينصحني، قائلاً: أنت شاب في مقتبل العمر. لماذا توقع نفسك في مشاكل؟

وكان جواب المرشد أمام مدير الشرطة نفس الجواب الذي أفحم به مدير الشرطة في بيرجند: علي أن أؤدي رسالتي الدينية وأنت تستطيع أن تنفذ ما أوكل إليك من مهام. أنت لاتملك أكثر من أن تقتلني وأنا أعددت نفسي للقتل. فبم تخوفني؟".

ويحكي المرشد في اعتقاله الثاني كيف حقق معه "السافاك" وكيف أدخل السجن؟ ومع من التقى من عرب الأهواز فيه؟

وينقل المرشد ما "فعله الأخوة العرب" كما يسميهم في مذكراته لحظة إبلاغه بإطلاق سراحه، فعملوا "هوسة" عربية رددوا فيها: "يا سيد جدك ويانه" تعني في اللهجة العامية: معنا.

بعد أيام من إطلاق سراحه لم ينس المرشد المقابلة الأسبوعية للسجناء. يقول: لم يكن لي مقابلة مدة وجودي في السجن. إذ كنت ممنوعاً منها، فاشتريت حلويات وذهبت للسجن، فزرت الأخوة ووزعت الحلويات عليهم.

ما ختم به المرشد خامنئي هذا الفصل من زيارته للإمام الخميني رغم أنه محاصر في منزله، وقوله له: "فلنخطط من الاَن لموسم محرم"، يشكل إشارة إلى توفر كل العناصر التي تجعل الثورة الإسلامية تتحقق من وجود كوادر ودعاة مثل المرشد وقائداً لها مثل الإمام الخميني.

الإعتقال الثالث للمرشد خامنئي تزامن مع نكسة عام 1967 بعد مطاردات عديدة وكان على إثر تشييع "الشيخ مجتبى قزويني"، حيث تم اقتياده إلى مبني "السافاك"ومنه إلى معتقل عسكري.

ويقول المرشد أن اعتقاله الرابع والخامس كان في نفس المكان أيضاً. "وكنا نسميه "القصر الأبيض" أو "الفندق الأبيض" لأنه كان مبنى نظيفاً أبيضاً".

إن مذكرات المرشد خامنئي تشكل جزءاً من أدب السجون. ومن يقرأ سرد المرشد للتفاصيل التي حدثت معه في اعتقالاته المتعددة وسجنه، وما كان بحوزته من كتب قرأها أو ترجمها وعلى رأسها القراَن الكريم، يتذكر ما قاله مانديلا عن علاقته بالكتب في فترة سجنه، ووصفه للروائي النيجيري "تشنوا أتشيبي" بأنه "الكاتب الذي انهارت جدران السجن في صحبته" أي بصحبة رواياته.

 

كتاب "إن مع الصبر نصراً" من إصدار مكتب "حفظ آثار ونشر آثار الإمام خامنئي"، وتوزيع مركز الحضارة لتنمية الفكر في بيروت.