عند المنعطف
"اليوم ليس البارحة"، كرَّرت بصوت مسموع وأنا أتجاوزهما ولا زلت أكرِّر العبارة حتى انطلقت فجأة وأنا أستدير عند المنعطف نفس الأغنية التي قرَّرت سماعها البارحة عندما انتبهت إليهما.
كان واقفاً هناك عند رأس المنعطف، مرتدياً نفس الجاكيت الكاكي، مائلاً بقامته بعض الشيء على صديقته التي وقفت قبالته. كانا مستغرقين في حديثهما، وربما لم يلاحظني. لكنني فعلت، حين كنت منشغلة باختيار الموسيقى على هاتفي والتحقّق من خلاء الطريق أمامي، ولم أطل النظر إليه حين أدركت وجوده بل دسست هاتفي في جيبي وزدت قليلاً من سرعة هرولتي.
عند المنعطف، حين استدرت، أحسست وكأنني سلكت طريقاً خاطئاً بالرغم من أنه نفس المسار الذي سلكته لشهور، وأكملت المسير بالرغم من ذلك، بينما تدفّقت إشارات كهربائية مختلفة داخل دماغي، وربما سلك بعضها منعطفاً خاطئاً. فقد أحسست بأمواج من الشعور، الكثير منها، وقد أثقلت رجلاي وجفناي. في الطريق إلى محطة القطار، استدرت حول خياله، يوقفني ويدعوني للتريّث وربما للبقاء. لقد كان شعوراً حقيقياً لدرجة أنني وقفت دقيقتين بلا حراك أتفقّد وجوه المسافرين. لكنه لم يكن هناك. إنه لا يزال عند المنعطف أو ربما سلك طريقاً جديداً.
غلبني ثقل الشعور، لكنني حملته معي إلى القطار وسافرت به مسافة مدينتين، وحين وصلت إلى البيت توقّفت عن احتوائه.
في الغد تكرَّرت الحكاية نفسها. المنعطف والزاوية والجاكيت نفسها، كنت أقلِّب في مكتبة أغانٍ حين لمحته هذه المرة أيضاً. اعتقدت في البداية أن الأمر مضحك نوعاً ما، تفقّدت المكان والزمان، تفقّدتني، حاولت تذكّر حدث فريد أو خاص بهذا اليوم: أحضرت برتقالتين، حتى أنني أعطيت واحدة لأحمد، لديّ شاهد.
"اليوم ليس البارحة"، كرَّرت بصوت مسموع وأنا أتجاوزهما ولا زلت أكرِّر العبارة حتى انطلقت فجأة وأنا أستدير عند المنعطف نفس الأغنية التي قرَّرت سماعها البارحة عندما انتبهت إليهما.
"ربما لا يعدو الأمر كونه مصادفة. أن يكون المنعطف مكان التقائهما المعتاد، نعم، هذا جلّ ما في الأمر"، صرفت الأفكار الجامحة التي كادت أن تملأ رأسي عن آخره. في محطّة القطار، بالكاد تذكَّرت الموقف وحين فعلت ابتسمت ابتسامة واهية وانتظرت وصول القطار.
في اليوم الموالي، انتظرت ساعة انتهاء الدوام بفارغ صبر أكثر من المعتاد. فلا وجود لصدفة ثالثة، الصدفة مرتان فإن تعدّتهما فهي نمط. وحين غادرت مقرّ العمل، لمحت من بعيد خيالاً منتصباً عند رأس المنعطف، اضطرب قلبي وارتجفت شفتي السفلى، بلعت ريقي وقرَّرت التقدّم.
من دون موسيقى أبقيت أذنيّ حرَّتين، تقدَّمت ببطء، نفس الجاكيت الكاكي، نفس زاوية الميلان، نفس درجة الضوء المنعكس على وجهه من مصباح الشارع على الجهة الأخرى. حاولت أن أقترب قليلاً لعليّ استرقّ كلمة أو إثنتين من حديثهما، لكن كل ما سمعته كان صوت أمواج غاضبة تتسابق لتنكسر على جانب صخري. وضعت سمّاعاتي وشغّلت الموسيقى ومضيت في طريقي مسرعة مخافة أن أفوّت القطار. لعلّني لم أنم تلك الليلة ولا الليالي التي بعدها. ولعلّني استغرقت في التفكير فيه أكثر من تفكيري في الموضوع نفسه.
وتكرَّر الأمر إلى أن ألفته، بل أصبح طقساً يومياً، أن أمرّ بهما عند المنعطف وأجدهما منفصلين عن العالم تماماً. وربما كانت المرة الوحيدة التي توقّفت لتفحّصهما، حين أمطرت، وفي الوقت الذي كان الجميع فيه يركض في اتجاهات عشوائية اتّقاء المطر، ظلاّ هما في مكانهما ولم يتزعزعا قَيْدّ أنملة. هناك على الرصيف، في المنعطف، ظلّ يتحدّث بصوت خفيض، مائلاً بقامته على رفيقته، مرتدياً جاكته الكاكي الذي لم يقفله حتى.
وتوقّفت عن محاولة إيجاد تفسير للأمر مع الوقت، خاصة وأنه لم يعد يسبّب لي ثقلاً في الرجلين أو الجفنين. بل كانت هناك أيام لم ألق إليهما بالاً حتى، فقد كنت إما شاردة أو أتحدَّث في الهاتف أو أبحث عن أغنية جديدة غير تلك التي ألفتها.
وأتذكَّر أنني عقدت هذا الرهان السخيف مع نفسي في آخر يوم إجازتي، أنني سأبادره الحديث حين أستأنف العمل، إن وجدته هناك. انشغلت طوال ذاك اليوم بفكرة الحديث إليه، كيف سأبادره؟ ماذا سأقول بعد التحيّة، هل أحيّيهما معاً؟ أم هو لوحده؟ بَيْدَ أنني لم أجده عند المنعطف. كان شعوراً شبيهاً بذاك الذي يجتاحك حين تلقي نظرة أخيرة على بيتك الخالي بعد أن قرَّرت الرحيل عنه فيبدو غريباً عليك، وكأنك تكتشفه لأوّل مرة.
وأذكر جيّداً أنني توقّفت عند المنعطف، في المكان الذي كان يقف فيه عادة، أحاول تذكّر طريق العودة.