وعد بلفور في الرؤية الأميركية
في الذكرى المئوية لوعد بلفور، يعرض الباحث والمؤرخ الأميركي جيفري كوك هذا الوعد المشؤوم في الرؤية الأميركية.
عندما خرج البريطانيّون من فلسطين بعد الحرب العالميّة الثانية، تدخّلت الولايات المتحدة لملء الفراغ الذي أحدثه خروج تلك القوّة العظمى من الأرض المقدّسة، مع أنّ الولايات المتحدة كانت قد وافقت على وعد بلفور (1917)، بل ووسّعت نطاقه أيضاً. فبعد أن قضى الوعد ببناء كيانٍ صهيوني أو دولة “يهوديّة” على جزءٍ من المساحة المُنتدبة سابقاً، بات التزاماً ببناء ذلك الكيان أو تلك الدولة ضمن حدود فلسطين جمعاء وخارجها.
ورئيس الولايات المتحدة في أواخر الأربعينيّات، هاري ترومان، رجلٌ علماني الفكر، ترعرع في ولاية ميسوري، وهي إحدى ولايات الحزام الإنجيلي، حيث يهيمن شكل فريد من نوعه من الديانة المسيحيّة الأميركيّة المتزمّتة. وبالرغم من أنّه لم يؤمن بهذه المعتقدات، فقد أثّرت في نظرته إلى العالم بشكلٍ لا شعوري.
وهذه المسيحيّة الماهويّة مشبّعة بكتابات من العهد القديم (التناخ). وبالتالي، قامت إسرائيل الحديثة على معتقدات أميركيّة للغاية لا تزال منتشرة في القسم الشمالي المعاصر للقارّة الأميركيّة. واليوم، تعتمد أرض العبرانيين (الحديثة) على الصهاينة المسيحيين (الأميركيين) أكثر ممّا تعتمد على يهود العالم حتّى. وقلّ ما يعرف هؤلاء الصهاينة المسيحيون عن الحق المشروع للفلسطينيين الأصليين بالأرض المقدسة الذي يعود لثلاث آلاف سنة. وأمّا اليهودي الاعتيادي، فهو بشكلٍ غير مباشر، على هذه الحال بسبب اختلاط أفرادٍ في شتاتهم طوال ألفي عامٍ من الزمن.
وكانت إسرائيل الحديثة منذ إنشائها وليدة الحكومات الأميركيّة ودائماً ما أظهرت الأخيرة استعداداً لتسهيل سياسات هذه الحكومات الخارجيّة، لا سيّما في الشرق الأوسط. وباتت الولايات المتحدة حامي إسرائيل. وبشكلٍ من الأشكال غدت إحداهما نسخة عن الأخرى. وأصبح الفلسطينيّون أشخاصاً منسيين لا حقوق ولا أهميّة لهم. كذلك، بالرغم من أنّ فلسطين دولةٌ سياسيّة تضم ثلاث ديانات، يعتبرها الغرب دولةً مسلمة، ممّا يطرح موضوع كراهية الإسلام، وهو تلك الأسطورة التي يتداولها الكونغرس الأميركي والمستويات الشعبيّة، لكن تلك ليست حال السلطة التنفيذيّة، ولا سيّما وزارة الخارجيّة.
ولا يستطيع المرء التحدّث عن فلسطين من دون أخذ إسرائيل بعين الاعتبار، إذ كلاهما يسكنان المساحة الجغرافيّة نفسها ويتنافسان عليها. وفي الوقت نفسه، أصبحت سياسة الاستعمار الاستيطاني التي تمارسها تل أبيب لا تطاق وغاية في القساوة بالنسبة للعرب الأصليين في الأراضي المحتلّة. ولا شكّ في أنّ إسرائيل كيان مستبد، والولايات المتحدة هي من يمكّنها من ممارسة استبدادها. فلا يستطيع العبرانيّون البقاء على قيد الحياة وسط العالم العربي المعادي لهم من دون رعاية قوّة عظمى كالولايات المتحدة الأميركيّة.
وتنتج رعاية الولايات المتحدة للدولة “اليهوديّة” من شعورها بالذنب بسبب المحرقة، بالرغم من أنّ التاريخ ينصّ على أنّ الأميركيين هم من خلّص يهود أوروبا وليس من اضطهدهم. والسبب الثاني هو الفهم الأسطوري للعهد القديم في الديانة المسيحيّة الأصوليّة. وأمّا السبب الأخير فهو أنّ هذه الرعاية مؤاتية للولايات المتحدة جيو – سياسياً.
وبالنسبة لبلدٍ صغير، فإن إسرائيل قوّة إقليميّة أكثر من عظمى. وعلى الورق، إسرائيل هي إحدى القوى الثلاث المهيمنة على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك بفضل دعم الولايات المتحدة المالي والعسكري. وفي حال توقّفت الولايات المتحدة عن إمداد إسرائيل بالدعم، لن تبقى الأخيرة قوّة إقليميّة. لكن الجانب الإيجابي للأمر هو أنّ هذا الالتزام يتغيّر في واشطن وفي عقليّة يهود أميركا أيضاً.
وبخصوص فلسطين، يرى اليهود الليبراليّون أنّ الحل هو في إنشاءُ دولتين، واحدة فلسطينيّة وأخرى إسرائيليّة، كذلك ترى الحكومة الأميركيّة أنّه الحلّ المناسب. إلّا أنّ الكثير من اليهود (بمن فيهم إسرائيليّون) والفلسطينيين التقدّميين يدركون أنّ حلّ الدولتين بات من الماضي. ويغدو حلّ الدولة الواحدة حتمياً أكثر فأكثر، وهو حلّ إنشاء كنعان جديدة حيث لكلّ شخص صوت. وينبغي عدم الخلط بين حلّ الدولة الواحدة ومحاولة اليمين اليهودي إقامة إسرائيل الكبرى التي تقضي بطرد الفلسطينيين من أرضهم. وهذا اليمين قلق من أنّ الدولة اليهوديّة ستزول عند اعتماد هذا الحلّ، ففي دولة “إسرائيل/فلسطين” التي ستنشأ بموجبه، سيكون اليهود مجرّد جزءٍ من الدولة وليس الأكثريّة فيها.
وبالرغم من حزمة المساعدات البالغة 30 مليار دولار التي ستقدّمها الولايات المتحدة لإسرائيل خلال السنوات العشر المقبلة، لا تزال الأولى تؤيّد قيام كيان فلسطيني مستقل يؤدّي إلى قيام دولة. وقد أدّى فشل مبادرة كيري، بسبب أغلبيّة حزب الليكود في الكنيست، إلى تأخير حدوث ذلك إلى أجل غير مسمّى، ممّا سيؤدّي باعتقادي إلى ردٍ فلسطيني أكثر تطرّفاً من أيّ وقتٍ مضى. وربّما كان إحباط هذه المبادرة آخر فرصة لضمان استمرار الدولة اليهوديّة على المدى البعيد.
وكانت إدارة أوباما في واشنطن أكثر تعاطفاً مع مآسي الفلسطينيين من إدارة أيّ رئيس آخر منذ قيام إسرائيل. وكلٌّ من المرشّحة الأوفر حظاً للرئاسة هيلاري كلينتون، والعنصري والقومي المتطرّف دونالد ترامب متحيّز لإسرائيل بشكلٍ عنيف، وبالتالي معادٍ للفلسطينيين. ولا بدّ من إدراك أنّ هيلاري كانت عضواً في مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك، حيث لا يستطيع المرء الفوز بأبسط منصب رسمي من دون الحصول على أصوات اليهود. وخلال عملها وزيرةً للخارجيّة لم تُظهر هيلاري كلينتون أيّ اهتمام بمحنة الفلسطينيين، إلّا أنّه في كتاب ألّفته عندما كانت السيدة الأولى خلال رئاسة زوجها عبارات تبعث على الأمل، إذ كتبت أنّها صُدمت بالقمع الذي يتعرّض له الفلسطينيّون وتأثّرت به كثيرًا.
ومع اقتراب نهاية فترة رئاسة أوباما، تضاءل احتمال أن يلقى الحكم الذاتي الفلسطيني دعماً أميركياً.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]