الشّاعر اللبناني محمد العبدالله: إننا مضطرون الآن لحريّتنا كلّها
الشّاعر اللبناني محمد العبدالله الذي ترك الدنيا منذ أيّام، وأورث قرّاءه شعراً وفكراً وقصصاً ونصوصاً مسرحية وغيرها، وضحكات حنونة حيناً وساخرة أحياناً، بين سطوره ودموعه. لن نبخل عليهم بجلسة حميمة، مع أصدقاء وندماء للشاعر، كي يُخبروننا عنه حسبما عرفوه عن قريب، كإنسان وشاعر ومفكّر وصاحب قصص طريفة أيضاً، مبتعدين عن اللّغة الإنشائيّة والرثاء غير المُجدي.
كان محمد العبدالله يتفاعل مع نصوصه كأنّه يتفاعل مع أصدقائه
"قلت إنتَ فليت، وأنا
بكتبلك" كنتَ تقول لي نحن المبدعون هذه أدواتنا، لا نعرف غيرها.. تضحك بزعرنة
الولد، وعيون صائبة، وبصوت أجشّ تقول "ولكن.. نحن الباقون".
الشّاعر اللبناني محمد العبدالله الذي ترك الدنيا منذ أيّام، وأورث قرّاءه شعراً وفكراً وقصصاً ونصوصاً مسرحية وغيرها،
وضحكات حنونة حيناً وساخرة أحياناً، بين سطوره ودموعه. لن نبخل عليهم بجلسة حميمة، مع أصدقاء وندماء
للشاعر، كي يُخبروننا عنه حسبما عرفوه عن قرب، كإنسان وكشاعر وكمفكّر وصاحب قصص
طريفة أيضاً، مبتعدين عن اللّغة الإنشائيّة والرثاء غير المُجدي. باختصار إسم محمد العبدالله لا يقلّ أهمية وربما يزيد عن الشعراء العالميين، لكن
ما يمتازون به عنه أن لديهم دولة تثمّن موهبتهم وفكرهم، وتحفظه وتحوّل بيوتهم إلى
متاحف، ومجتمع حاضن مُقدّر، يقرأ بالباصات والطرقات وأينما كان. الباقي يعرفه
القارئ.
تخبرنا شقيقته الشاعرة نجلاء
العبدالله في إحدى المرّات، نزلت أمي إلى السوق لتشتري بدلة لمحمد، إحتارت
بالمقاس، فسألها البائع، "يعني على وجه التقريب ممكن أن يكون بمقاسي؟" أجابت
"عم تمزح. إنتَ ما بتطلع علكة تشوينغوم أمامه".
بكت حنان صديقة الشاعر محمد العبدالله الحبيبة وقالت لن أتكلّم الآن. على صفحتها كتبت تقول "يجب أن نأخذ كل الوقت الذي نحتاجه لحزننا.. أنا حزينة وحزينة كثيراً، ولن
أستعجل أن أترك حزني، ولن أسمح لأحد أن يستعجلني، خاصّة إنني حزينة على فراق
الحبيب الغالي "محمد". علّمني وأعطاني الكثير، الكثير لأتذكّره..
من كتابات
محمد العبدالله، نشرت حنان.
"إنّنا أعظم جيل لأعظم مرحلة،
لأننا مضطرّون أن ننتزع أشواكنا بأيدينا، ولأنّنا لم نرث سوى هزيمة فاحشة، ولم
نتزوّد سوى بمجهول آت، وعلينا لكي نعرف أي شيء، في أي زاوية مظلمة أن نشتغل فيها،
إننا نبتكر حريّتنا قيداً قيداً وفضاءً فضاءً، بينما المقصّ يتدخّل بين الشهيق
والزفير وأننا مضطرون الآن لحريّتنا كلّها، إننا على عتبة الشعر".
ستبقى قبّعاتنا مرفوعة لك، أيها الحبيب
الشاعر الراحل في صورة مع والده وأشقائه
كان محمد يسهر في أحد الأماكن بين أصدقاء
وندماء. إحدى الصّديقات الجديدات إبتسمت حين دعاها كي تجلس
إلى جانبه. إرتفع صوت "إديث بياف" فانتشى لصوتها. تعالي نرقص. إعتذرت لعدم
إتّقانها هذا الفن. قال الرقص لا يحتاج للتعلّم.اتركي نفسك على سجيّتها. إستعان
بالصديقة الجالسة قبالته. قاما يلحقان بصوت "إديث" المتمرّد. راقصته هو
وعصاه، وكان يشكو وجعاً في الظّهر. تمايلا ببطء وحلّقا. إنتهت الرقصة. قبلة يد،
وعادا إلى مكانيهما. همس للصبيّة التي على يمينه، لا جمال ولا أنوثة بلا رقص.
يقول صديق العبدالله الشاعر جبران
بعلبكي الذي يعيش في السّويد: كان محمد يتفاعل مع نصوصه، كأنّه يتفاعل مع
أصدقائه. يُحبّها ويُغنّجها ويُخلص لها. لم يتنكّر يوماً لنص كتبه. يبكي ويضحك،
عندما يلقي نصوصه علينا. بقي قابضاً على قليل من الأمل. أتذكّره جيّداً، عندما بكى
فرحاً وأبكانا حزناً، لما رأى مئات الشباب قصدوا صيدا للإستماع إلى مرسيل خليفة في ذكرى المقاومة اللبنانيّة.
كان محمد يُفاجئنا دائماً بنصوصه وآرائه
وطريقة عيشه الفوضويّة، حتى اليوم الأخير. فارتبطت الحداثة في لبنان باسمه.
محمد أخذ منا حيزاً عريضاً من حيّز البهجة
الضيّق، الذي كنّا نحاول التمسّك به حين رحل. في إحدى جلساتنا في "عيترون"
جنوب لبنان، ألقى "محمد" علينا ما كتبه عن الشاعر "أنسي
الحاج" حين رحل، وألقت عيناه دموعاً بلّلت الورق. عندما غادر، نسي قبّعته أو
أنه تركها في بيتنا، كأنّه أرادها ذكرى منه لنا.
كتاب "حبيبتي الدولة" كان مفاجأة
أبهجت كل من قرأه، لأنس لغتها ولمحليّتها وللتعبير بشكل أدبي رفيع عن مشاعر الناس
وعن تعبهم من الحرب وتوقهم إلى الحياة العاديّة التي أُخذت منهم عنوة.
عزيزتي سهى، الشعر أخذ منّا محمد، فأصبح
شاعراً وخسرنا محمد الفيلسوف.
أعذرنا أننا قصّرنا
معك، ستبقى قبّعاتنا مرفوعة لك أيّها الحبيب.
"شو شغلتي غير إرتكاب الأخطاء"؟
في بيروت وفي
شارع الحمرا الذي شهد تسكّع محمد، وجلساته مع الأصدقاء، كان هذا اللقاء وبالمناخ
نفسه والأصدقاء أنفسهم. نوفل الأمين صديقه ورفيقه الدائم، خاصّة خلال سنواته الأخيرة، يحاول التّركيز على قصص محمد العبدالله وعباراته الطريفة، يقول: سألته مرّة ونحن نمشي في الشّارع، أنت
تقوم ببعض الأفعال التي باستطاعتك تجنّبها. تُزعل تلك الفتاة، وترتكب الحماقة مع
آخر أو أخرى، وتقول كلاماً لصديق، الأفضل عدم قوله.. إلى آخره.. لِم كل هذه الأخطاء
يا "محمد"؟ أجابني "شو شغلتي غير إرتكاب الأخطاء؟"
يضحك الأصدقاء.
الشّاعر
"علي العبدالله" صديقه
وابن خالته، يقول: حين توفيت والدة محمد منذ
سنتين، وقف أمام ضريحها وقال لها، أنا لن أبقى طويلاً، سوف ألحق بكِ.
يتدخّل الشّاعر "علي بعلبكي" ويقول: محمد كتب نصاً، يصف فيه جنازته، نسيت بأي ديوان نشره. أتذكّر مقطعاً
صغيراً "أبالسة هادئون، يسيرون خلف الجنازة وكأن يبتسمون، ويقولون كلاماً،
ثم يضحكون، يا حنون، يا حنون.."
يضحك الأصدقاء وهم يهزّون رؤوسهم مفتقدين صديقهم والبعض يتلفّظ "ضيعانك يا محمد".
أنا شاعر، أنا فلتان، أنا أحكي..
الكاتب والباحث "نهاد حشيشو": في بداية حياته، دخل محمد إلى العمل السياسي.
أيامها كان اليسار يتلقّف كل آت من الجنوب. واكب محمد الحركة الوطنيّة، التي لم يطل
بها الأمد، حتى فَشِلت. بعد عام 1985 وكلما كان الوضع السياسي يسوء، وكلما البلد
أقفل على نفسه أكثر، تجد "محمد" يبالغ أكثر بالعبثيّة. حين نشر كتابه "حبيبتي الدولة"
عرفت "محمد". كان يتفاعل مع المدينة مع الحدث مع الهزائم، بلغة ساخرة
وعبثيّة. كثيرون إعترضوا على لغّته تلك، وشتموه لأنه برأيهم بالغ بالفجاجة والرفض
والمشاكسة.
بالنسبة لعلاقته بالمرأة. كان يحترمها جدّاً،
لكن في الوقت نفسه كانت هي جزءاً من الرفض. جزءاً من المعاناة. الجمال بالنسبة إليه
كان باهتاً. هكذا رأيته.
يُضيف "نهاد حشيشو" جسّد محمد
العبدالله، إرادة التمرّد والإعتراض، على ما هو سائد في المجتمعات العربيّة، فكان
في حياته، ضد الإقطاع السياسي والطائفيّة والمذهبيّة والإنعزال. يرفض الميليشيات
بالمعنى المطلق عند اليمين وعند اليسار. رغم حبه لفلسطين والقضيّة لكنه كان ضدّ
السّلاح. كان له رأي في فلسطين القضيّة. تحدّثنا مرّة بهذا الموضوع. برأيه فلسطين تعني نحن، هزيمتنا، حياتنا. كل آمالنا التي تكسّرت. كان مندمجاً بالقضيّة.
نوفل الأمين: كان يقول "أنا فلسطين".
نهاد: كان يحتقر رأس المال الإحتقاري، فالبشر
برأيه ليسوا بغنم.
أيمن: كان يقول، كل صاحب سلطة يتحوّل إلى حيوان.
سهى: ترجم أفكاره هذه بـ"حبيبتي
الدولة".
نهاد: أما في الشعر والأدب، فقد كان "محمد
العبالله" متحرّراً من الواقعيّة الشموليّة. يعني كان كارهاً لـ"ستالين" حتى النهاية، كان كارهاً لـ"برشت" مع كل أهميّته،
لأنه تقوقع في الواقعيّة الإشتراكيّة. "ماياكوفسكي" حين يمرّ على ذكره،
يرفع كأسه ويشرب نخبه لأنه كان ربّ الثورة، فهذا تمرّد. الشموليّة الواقعيّة
المبتذلة، المرتكزة على هيمنة وسلطة وأهواء الإنتهازيين والبيروقراطيين، يرفضها.
كان يُعبّر قائلاً "شو ديمقراطي؟" أنا شاعر، أنا فلتان، أنا أحكي. يرفض
المسمّيات الملتبسة والقمعيّة، ويسخر من اليسار حين يُطلق شعارات، كحقوق
الإنسان، جماهير، فلاحين، إلى آخره من الشّعارات، ومع أقصى الجموح نحو اللغة
الحرّة الساخرة، البسيطة بمحتواها التصويري، والمعبّرة على تطلّعات الأفراد. كان محمد يصوّر.
يهتم للفرد، وإذا ليس هناك من فرد،
تبّاً للجماهير.
يرتاح
الأصدقاء قليلاً وقبل أن يُكملوا، تخبرنا شقيقته نجلاء في اتصال
معها من قطر: كنّا
عشرة أولاد. الوالد مدير مدرسة الخيام، وكنّا نُعرف بأولاد الأستاذ "علي".
يعني خطّاً أحمر، وجميع التلامذة في ذلك الوقت مع أهاليهم، يهابون هذه السّلطة، ونحن
من ضمنهم، إلا "محمد" لم يخضع لهذه السّلطة. كانت أمي تميّزه عنّا ولا نعرف
لماذا، بل كانت تمنحه الغطاء الكامل لتفرّده ولتمرّده. "ممنوع النزلة على المرج
والسباحة في الدردارة". كان محمد ينزل ويسبح ويقول لأمي "أنا نازل سجّليلي
علقة". واستمر تميزها له حتى أصبح شاباً، وحاز على جائزة الشّعر بكليّة التربية،
فشعرت أنها كانت على حقّ بتمييزها له وتبنّت تمرّده. كل ما كان يصل إليها من مال غير
مصروف البيت، كانت تمدّه به رغم منحة الكليّة. كانت أمي تصطدم مع أبي بسببه، لكنها
كانت شخصيّة طاغية في البيت، وكانت دائماً تقوم بمناظرة بالشعر، كما كانت حافظة قصائد كثيرة.
كانت أمي من أكبر المعجبات بمحمد وكنا معجبين بإعجابها به. كان محمد فارساً يخيّل بكل
الإتّجاهات تحت غطاء أمي.
عاش الشّعر
يقول نوفل الأمين متذكّراً إحدى طرائف صديقه "محمد العبدالله": كنّا نجلس وصديقاً شاعراً،
أحبّ أن يمارس هواية الرسم، فأطلع "محمد" على إحدى رسوماته. قال له الصديق
"بتشتري هذه الورقة بـ 20 دولاراً" فأجابه محمد "كنت اشتريت الورقة،
لكنني ألاحظ أنك قد رسمت عليها".
يضحك الأصدقاء.
الشّاعر والمترجم أيمن الأمين: كنا نلعب بالحياة. جاءني مرّة وهو يسلّم علي
ويسأل عن حالي مقترحاً أن أرافقه بمشوار صغير، لا يبعد عن بيتي كثيراً. كلما
مشينا، قال إقترب قليلاً بعد، فأقترب، إقترب أكثر، فأقترب وأنا أنظر إلى خطّ
العودة، فأجد إزدحاماً قوياً بالسير. شتمته أين تأخذني، فقال سنصل. حتى وصلنا إلى
كازينو لبنان، ونحن الآتون من الطيّونة. قال "أنزلني هنا جيّد. إنتهت مهمتك،
فاذهب أينما تشاء". نظرت إليه ومشيت. وصلت إلى شارع الحمرا، ودخلت أحد
الأماكن التي نجلس فيها عادةً. وجدته في الدّاخل. يقول "أيمن" فقدت
أعصابي وأنا القاطع لتلك المسافة الطويلة وهناك ازدحام سير رهيب، لأجده وقد عاد قبلي.
أدّى ما عليه في الكازينو، واستقل تاكسي وعاد.
مُعلّقاً أيمن يُضيف، لطيف هذا الـ"محمد" الذي كان، ورغم الظروف الحياتيّة القاسية التي أتت عليه. أنا لا أحب من يكتب الشعر "المتفزلك"، بل أحب من يعيش هذا الشعر، ومحمد عاشه. مع زوجته السّابقة، مع نسائه مع
أولاده مع كل من عرفه. إنسان منسجم مع نفسه، ومندمج مع عبثيّة الحياة. نحن كلنا
الذين نجلس هنا "مبسوطين" به.
نوفل: كل منا يمتلك بعض العبثيّة، وإلا ما كنا
لننسجم معه.
الشاعر علي
بعلبكي: هو معنا.
أيمن: وسيبقى معنا. هو الرجل الآتي من أقصى الجنوب،
من بلدة الخيام، تزوّج هدى (الروائيّة اللبنانية "هدى بركات") الآتية من
بشرّي، أقصى الشمال. لا أعرف كيف أفسّر محمد بدقّة، أعرف أنه شاعر رؤيوي، يرى ما
لا يُرى. أنا أتماهى مع محمد شعرياً، رغم أنني لا أعتبر نفسي شاعراً، بل أتذوقه
وأعمل نهفات شعريّة. نعم يعتبرني شاعراً وقد أحب شعري. هو شاعر صديق وصديق شاعر.
لاعب بالحياة. هناك أناس يلعبون بالكازينو ولكن لا يعرفون أن يلعبوا بالحياة. يطول
الكلام بمحمد. هو فلسفة العبث.
قصيدة أيمن لمحمد العبدالله:دون كيشوت. لم يكن يُرضيكَ الجواب فأَغرقتَ
عمرك بالأسئلة/ وطافت بك الأيّام/ ببحر كيف ولماذا ومتى../ رددت الحياة إلى
منابعها/ كتبتها بيمناك./ ودون كيشوت/ يضرب الهواء بالفأس/ حطّمتها بيسراك/
تجرّعتها طويلاً، طويلاً/ رفعتها صادحاً بالشعر/ والراح/ والكأس/ وحالك يردد في
اصطخاب الموج: لا بأس في اللا بأس../ (كان دائماً يردّد لا بأس في اللا بأس).
أشعلتها ناراً تلك الحياة/ وبوهجها أضأتَ فضاءها بالكلمات/ مُحمَّد.. ضوءُ الوجودِ
غارق في عتمة العدم/ وما زال السؤال سؤالكَ: ماذا أفعل بكل هذا الضّجر/ ماذا أفعل
بكل هذا السأم يا دونكيشوت؟/ لم يأتك الجواب/ فأغرقتَ عمركَ بالأسئلة/ وطافت بك
الأيّامُ/ ببحرِ كيفٍ ولماذا ومتى..
"محمد العبدالله" إنطباعي، يحوّش الحكي..
لو كان محمد العبدالله في بلد غير لبنان لكان في مصاف الشعراء العالميين
الشاعر "بلال شرارة": أعرف "محمد العبدالله" من أيّام
الحرب. شخصيّتي تختلف عن شخصيّته. أنا كنت مُقاتلاً، أمّا محمد فيريد للحرب أن
تنتهي. "إنو يا خيي حاجي طوشتونا". نحن لم نقصد إزعاجه. ليس قصدنا أن
نسبب الضوضاء، لكن أنا كنت أعود دائماً إلى الوراء، ظناً مني أن هناك دائماً طريقاً إلى
فلسطين. هو يريد طريقاً أخرى للوصول إلى فلسطين. كان يقول لنا "يا خيي عم
تقتلونا إلنا". أي أننا نأتي بالدب إلى كرمه. هو كان مع الحقّ، لكن كيف نأتي
بالعدالة دون مشاكل وحرب. ربما محمد يعتقد بأن الحق معه، وأنا أقول أن الحق معي
أيضاً. يقول "بلال" سأبقى آخر واحد يُطالب بفلسطين، حتى ولو لم يبق أحد
يريدها، فأنا أريدها. إلى حد الآن أذهب إلى الجنوب وآخذ معي أشخاصاً وأصدقاء، إلى
منطقة مارون الراس، فيقول لي أحدهم هذه إسرائيل وأقول له، هذه فلسطين يا غبي.
وأدله على الجليل ومجد بني عامل إلخ..
يُكمل "بلال شرارة" حديثه عن
"محمد العبدالله"هناك شيئان مهمان عند محمد. هو يسافر ولا يبقى متقوقعاً
في مكانه، يبحث عن المعرفة. إنطباعي، يتوسّع المشهد أمامه. يلاحظ التفاصيل. محمد له
طريقته بالتعليق على الأشياء، يضيف إليها شيئاً من الفرح حتى لا ينزعج منه أحد. كان
يزورني ويحب إهتمام الآخر به. يعرف أشخاصاً ليسوا أساتذة مدارس ولا خرّيجي جامعات،
لكن لديهم خبرة بالحياة، تستطيعين إعتبارهم شخصيّات مسرحيّة. أعتقد بأنه كان
يتصيّد منهم الكلام. كان "يحوّش حكي". لمست ذلك بكتاباته. كلٌ منا يأتي
بقصصه، من أماكنه المختلفة. نجلس و"نسولف" نقطّع لحم الليل بالكلام
والأحاديث. محمد كان جَدّياً، لكنه لم يجد مجتمعه. الأسئلة التي ممكن أن تسأليها
لمحمد، هو أيضاً يسألكِ إيّاها.
يقول "بلال" مات صديقي، فمن
سأعزّي. أنا لا أعرف أن أعزي، لكنني أعرف أن أحزن. ليس هناك من يعزّينا بمحمد، إلا
نحن أنفسنا. وها نحن جالسون نعزّي بعضنا. محمد ترك كتبه. ممكن أن ندلّ الناس إليها،
وربّما يقع أحدها بيد أحد الأشخاص فيستدل إليه. كنا نكتب لبعض بأحاديثنا، ولا
ننتظر المقال لنقرأه.
أنا طبعت له مجموعة قصصه "بيجاما
مقلّمة"، و"حبيبتي الدولة" الذي كان عنوانه مفاجئاً. لم يكن أحد
يتكلّم عن الدولة حينها. لم يكن أحد يحب ذكر الدولة. مَشي عكس التيّار. كان يرى أن
هذه الفوضى بحاجة لتنظيم، ولا أحد بمقدوره تنظيم الدولة، سوى دولة. كان يبحث عن
دولة يحبّها. هناك الكثير ليقال عن محمد.
"نوفل الأمين": حين علم بإصابته
بالسرطان، جاءني "محمد العبدالله" وهو يحاول تلطيف الخبر. قال لي، يا
نوفل، نحن خرجنا كثيراً، ودخّنا كثيراً، وشربنا كثيراً. وعبثنا ولم نترك شيئاً إلا
وناقشناه. قرأنا الشعر، وتكلّمنا بالفلسفة وسألنا كل الأسئلة. والآن أنا سأرحل.
بهذه المناسبة أريد الإتصال بالمحافظ، وأكلّمه بشؤون الجنازة. الأمور يجب أن تُحكى.
قلت له ليس صحيحاً أنّك مصاب بالسرطان، لمجرّد أن طبيب صحة شخص المرض. قال إن ابنته
"ديمة" قالت الأمر نفسه. حين بدأ بالعلاج الكيميائي، شعر بتعب كبير
وبأنه أصبح ينسى بعض الأمور من ثقل العلاج، ولم يعد يشعر بأنه بني آدم. فأخذ قرار
بالتوقّف عن العلاج، مستغنياً عن يومين زيادة سيشحذهما من الحياة. كان المرض منتشراً
وكان لديه الحق بالتوقّف عن تعذيب نفسه.
بهجة الفساد..
يقول قريبه الشاعر
"منتصر العبدالله" (وبالمناسبة عائلة "العبدالله" عائلة
كبيرة تزخر بالشعراء): كنّا نتحدّث بأحوال البلد، وفجأة أسمعه يردّد "بهجة الفساد" فاستفسرت منه عمّاذا يتكلّم. أعاد جملته "بهجة
الفساد" يبدو أن اللبنانيين مبتهجين بالفساد، وكان يقصد سبب إبتهاجهم كونهم
لا يعترضون كما يجب، ودخّن سيجارته، وهو في سرير المستشفى.
الشّاعر "علي العبدالله": محمد كان مثلي الأعلى وجزءاً من مخيّلتي.
بيته كان يبعد عن بيتنا 250 متراً. كان حين يأتي من بيروت فترة دراسته في دار
المعلّمين. يجلس على السّطح. سنة 1969 ويلوّح لي بالقنديل كي آتي إليه. جئته.
قال إجلس كي أقرأ عليك هذين البيتين من الشّعر. جلست.
"الليل عميق، وأنا كالحاوي ألتقط
الأشباح الرّعشة، أستحضر مريم من جوف الليل، وعلى العينين وعلى الأذنين، ما زالت
تنظر وتتلاشى، أخيلة فوق الأهداب".
نوفل الأمين يقول: في إحدى المقابلات
التلفزيونيّة، يسأل المقدّم "محمد". يا ترى هل لا زلت واقفاً على عتبة باب
الشعر، كما كنت تقول. فأجابه بنعم لا زلت. فسأل المقدّم، ولكن بعد كل هذا العمر؟ فرد
محمد، لو كنت دخلت، لأقفلت الباب ورائي.
(يضحك الأصدقاء)
خلقك الله برأس يفكّر
من أستراليا، ومن الجهّة الأخرى للكرة الأرضيّة، شاركنا
الشاعر
وديع سعادة بكلمة، فقال: لم يكن محمد العبدالله شاعراً بالكلمات فحسب، بل كان
شاعراً في الحياة أيضاً. عاش كشاعر. ميزته الأساسيّة، أنّه لم يُفرّق بين حياته
وشعره. بل كانت حياته شعراً، وكان شعره حياة، وهذه الميزة لا تكون سوى لدى الشعراء
الحقيقيين.
أيمن الأمين: كان محمد مقاوماً للسلطات. يقول، كل صاحب
سلطة هو حيوان. بالتأكيد كتبها في مكان ما. شيوعي محمد؟ لا ليس شيوعيّاً. كان أقوى
من الشيوعيّة. هو شاعر لأنه أقوى من الفكرة. هو رؤيوي. لديه رؤية للحياة، ومحبّاً لها.
الأستاذ الجامعي
هيثم الأمين ينصت ويبتسم ويقول: أنا لا أعرف التحدّث عن محمد إلا إذا تكلّمت عن زعرنته،
فسأكتفي بالإستماع.
الشّاعر علي بعلبكي: كان "أبو رضا" يُسمّي أصدقاءه
حركة السنسول الديمقراطي. في أحد الأيّام، يبدو أنه كان يشعر بالوحدة. راح يتّصل
بأصدقائه الواحد تلو الآخر، وأخبرهم بأن المكتب السياسي لحركة السنسول الديمقراطي،
إجتمع بغياب كل أعضائه، وقرّر أن تتفضّلوا إلى الخيام للتداول بأحوال البلد. وصل
الجميع وراح "أبو رضا" يوزّع إبتساماته وأشواقه على الجميع وعلا صوته.
اليوم يا شباب عطلة يعني بلا سياسة بلا هم عالقلب. هيّا إلى المطبخ، وكان يحب أن
يطبخ "الكوسا المحشي" بنفسه، ويردّد الله الله عليك يا عبدالله.
حنان بزّي كتبت: إلى الحبيب محمد..
أتذكّرك، هيدا شي كتير سهل. عم بصير كل ثانية
مع كل نفس من أنفاسي.. بس إني مشتاقتلك، هيدا وجع لقلبي ولروحي، لن أشفى منه
أبداً.
"إذ أنّك جدير، كما خلقك الله برأس
يفكّر، رأس يجعلك "أنت" بالفعل، فتمرّ بالفعل في هذه الحياة ويكون
لمرورك فيها أثر وتأثير، وصوت وصدى كما ينبغي له أن يكون، وكما صنعه الله وأراد له
أن يكون". (محمد العبدالله)
ناصر عبدالله (أصغر أشقّاء الشّاعر "محمد
العبدالله" وكان يعتبره يده اليمنى في كل ما يحتاجه) يقول: آخر أربعة أيّام
وكان في المستشفى، كان وضعه الصحّي يتدهور. صوته الجهوري، أصبح منخفضاً، اليدان
أصبح غير قادر على تحريكهما، ولا يطلب إلا القهوة و"سيكارة وراء سيكارة". دخلت
ممرّضة صغيرة السن، لذلك كان سؤالها بسيطاً، ماذا يؤلمك؟ طبيعي أن كل شيء يؤلمه.
أجابها بصوت يكاد لا يُسمع: "عم يوجعني جمالك".
توقّف
"محمد العبدالله" عن علاجه الكيميائي، بعد الجلسة الثّانية، كي لا يشحذ به
بعض الأيّام، ليعيش دائخاً وشبه فاقد للذاكرة.. ويرحل.
خفقة خفقة
يقوم بواجبه القلب/ إنهم لا يتعبون/ يسكنون التحوّل واللا وصول/ بطيئاً بطيئاً
يجيءُ رصاصهم/ يؤدّي تحيّته للقلب/ يأتي قليلاً قليلاً/ ولكن يصيب، ولكن يصيب ولكن
يصيب..
"محمد
العبدالله"