فلسفة الزمن و علوم الفيزياء

بين الكون يرتكز على الزمن وكون لا يرتكز عليه قد يكون الحل أنّ كوننا يتألف من كونين: كون بزمن وكون بلا زمن.

من الممكن وصف الكون بنجاح على أنه مادي ويتكوّن من ذرّات وجسيمات كالإلكترونات وطاقاتها
نرتحل في هذا المقال إلى فلسفة الزمن لنبحث في معنى الزمن وارتباطه بعلوم الفيزياء. فلا فرق حقاً بين الفلسفة العلم. فهُما زوجان لا طلاق بينهما لكونهما يسألان الأسئلة نفسها و يحاولان الإجابة من خلال المناهج الفكريّة ذاتها المُعتمِدة على البراهين العقلية والمدعومة من خلال اختبار الواقع. وتختلف الإجابات العلمية تماماً كما تختلف الإجابات الفلسفيّة. فبينما تدفعنا الفيزياء المُعاصرة إلى قبول فكرة عدم وجود الزمن، يدافع الفيزيائي "ي سمولن"عن الزمن ووجوده. لكن هل من الممكن الجمع بين وجود الزمن وعدم وجوده؟

 

يعرِّف أينشتاين الزمن على أنه ما تُشير إليه الساعة. و يقول إن الزمن نسبيٌّ يختلف مع اختلاف السرعة، فكلما زادت السرعة تباطأ الزمن. وهذا ما يُعارض موقف الفيزيائي نيوتن القائل بأن الزمن مُطلَق وغير نسبي. 
على هذا الأساس، نسف أينشتاين مفهومنا التقليدي للزمن المُتمثّل في اعتبار الزمن مُطلقا ًوليس نسبياً ً. فبالنسبة إلى أينشتاين، إذا سافر الأب بسرعة هائلة في الفضاء و قريبة جداً من سرعة الضوء ومن ثم عاد إلى الأرض سيجد نفسه أصغر من إبنه. هكذا يختلف الزمن باختلاف السرعة. و يعتمد العلماء على نظرية أينشتاين لاستنتاج أن الزمن وهم تتوهّمه الكائنات الحيّة من أجل تنظيم أفكارها ومشاعرها وأفعالها. فبما أن الزمن مُحدَّد من خلال هذه الساعة أو تلك،  بذلك هو نسبي بامتياز. إذن لا وجوداً حقيقياً له كما يستنتج العديد من الفيزيائيين ( Michio Kaku : Einstein's Cosmos. 2005. W. W. Norton & Company ).

 

من المنطلق نفسه، يُشير الفيزيائي ستيفن هوكنغ إلى وهميّة الزمن حين يؤكّد على صدق الموقف الوضعي. بالنسبة إلى الموقف الوضعي في العلم ونظرياته، فالنظريات العلميّة ليست صادِقة ولا كاذِبة بل هي مقبولة فقط  بسبب نجاحاتها في وصف الكون و تفسيره. و بذلك، هي لا تطابق الواقع بل هي مُجرّد أدوات ناجحة في تفسير الظواهر الطبيعية ووصفها. 
من هنا، يستنتج هوكنغ أنه لا جدوى من تعريف الزمن المُستخدَم من قِبَل بعض الفيزيائيين لتفسير هذه الظاهرة الطبيعية أو تلك. 
و يُضيف هوكنغ قائلاً إنه من غير الممكن تعريف الزمن لكونه تركيباً عقلياً مُجرّداً و ليس سوى أداةً ناجحةً في بعض النماذج الفيزيائية النظرية التي لا تُطابق الواقع أصلاً ( Stephen Hawking & Roger Penrose : The Nature of Space and Time. 2010. Princeton University Press ).

 

بالإضافة إلى ذلك، يقول الفيزيائي "لي سمولن" إن معظم الفيزيائيين يعتبرون أن عبور الزمن من ماضٍ إلى حاضر فمستقبل هو عبور وهمي. 

لكن سمولن يؤكّد أن الزمن حقيقي و قائم في الواقع. وبذلك يحاول سمولن بناء ثورة علمية ضمن الفيزياء المُعاصرة. 
يعتبر سمولن أن مُعظم الفيزيائيين مُخطئون في اعتبار الزمن مُجرّد وهم. وهذا لأنهم يظنّون أن النماذج الرياضية التي من خلالها يعبِّر الفيزيائيون عن القوانين الطبيعية الحاكمة للكون والوجود والخالية من مفهوم الزمن تطابق الواقع بدلاً من أن تكون نماذج رياضية وفيزيائية لتنظيم فهمنا للواقع. بالفعل، النماذج الرياضية خالية من الزمن لكونها مُجرّدة ورغم ذلك هي ناجحة في وصف و تفسير عالمنا الواقعي. 
لكن بالنسبة إلى سمولن، هذا لا يعني أن الكون خالٍ من الزمن. فإصرار الفيزيائيين على استنتاج أن الكون قائم بلا زمن وأن الزمن وهمٌ هو في الحقيقة استبدال النماذج الرياضية بالكون  والواقع والتخلّي عنهما. فثمّة فرق بين النماذج العقلية الرياضية الخالية من الزمن والواقع المادّي الحاوي على الزمن. هكذا يبرهن سمولن على صدقيّة أنَّ الزمن حقيقي و موجود بالفعل(Lee Smolin: Time Reborn. 2013. Houghton Mifflin Harcourt (.

 

لكن من الممكن وصف الكون بنجاح على أنه مادي ويتكوّن من ذرّات وجسيمات كالإلكترونات وطاقاتها، كما من الممكن وصف الكون نفسه بنجاح على أنه مجموعة معلومات. 
فالحقائق والأحداث تتشكّل من جسيمات ماديّة و طاقات، كما تتشكّل من معلومات و عمليات تبادل للمعلومات ( Paul Davies and Niels Gregersen ( Editors ): Information and the Nature of Reality. 2010. Cambridge University Press ). هكذا، الحقيقة ذاتها تملك مستويات واقعية مُتعدّدة و مُختلفة. 

فالحقيقة نفسها تتكوّن من مجموعة حقائق مُتنوّعة، لذا تنجح و تصدق النظريات المختلفة في وصف وتفسير الكون. من هنا، من الممكن علمياً وصف العالم من خلال النماذج الرياضيّة الخالية من الزمن، كما من الممكن بحقّ، وصف العالم من خلال الجسيمات وطاقاتها القائمة في الزمن. 
وبذلك ينجح وصف الكون على أنه موجود في الزمن تماماً كما ينجح وصفه على أنه بلا زمن. ومن الممكن للعقل البشري أن يتقلّب بين الكونيْن: كون بلا زمن و كون بزمن. الكون نفسه كونان: كون مادي بزمن و كون رياضي بلا زمن. فواقع من دون تجريد عقلي رياضي خارج الزمن واقع مجهول. و واقع من دون زمن هو واقع من دون انتظام الجسد والفكر والشعور.

 

لهذا الموقف أساسه العلمي. فبالنسبة إلى نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية، عالمنا يتكوّن من عالميْن: عالم حيث الجُسيم كالإلكترون هو فعلاً جُسيم و ليس موجة، وعالم حيث الجُسيم نفسه هو موجة  وليس جُسيماً. 

فالجسيمات تتصرّف على أنها جُسيمات وموجات في آن. لكن الجسيمات نقيض الموجات. و بذلك الحل الوحيد هو وجود كونيْن في كون واحد. كون حيث الجُسيم هو جُسيم و كون حيث الجُسيم نفسه هو موجة و ليس جُسيماً (Tony Hey and Patrick Walters : The New Quantum Universe. 2003. Cambridge University Press ). 
من هذا المنطلق، من الممكن القول إن عالمنا يتكوّن من كونيْن: كون بزمن و كون بلا زمن. وبذلك نوحِّد بين المذاهب الفلسفيّة والعلمية المُتعارضة.