بحر الذهب المُتماوِج
كان من أقوى مِتَعِها في الحياة أن تفترش العُشب وتأكل ما أعدّ على الحطب من خبزٍ وطعام. كانت هذه البساطة تتملّكها حدّ الاستعباد.
وقفت عند الباب. أحكمت وضع نظّارتها على عينيها الجميلتين الواسعتين والتي لم يُضيّقها العُمر إلا قليلاً، وبدت في لهفةٍ واضحةٍِ لرؤية بحر الذهب المُتماوِج.
نعم، ها هي تُزامِن زيارتها لعمّاتها مع قُرب موسم الحصاد. تريد أن تتمتَّع ببحر الذهب قبل أن تسعى الأيدي المُباركة إلى حصاده وجَمْعه ومن ثم تسويقه.
رتَّبت إجازتها لأنها كانت تسعى إلى الترويح عن نفسها بمناظر الريف المُمتِعة والتي اشتاقت لرؤيتها. كما أرادت الاطمئنان على عمَّاتها وتناول طعامهن بين حقول الذهب والزبرجد. فقد كان لهذين اللونين فعل كبير في مشاعرها وأحاسيسها. فقد كان من أقوى مِتَعِها في الحياة أن تفترش العُشب وتأكل ما أعدّ على الحطب من خبزٍ وطعام. كانت هذه البساطة تتملّكها حدّ الاستعباد.
وهي في المدينة عادت هذه الأمور أبعد من أن تحقّقها ولو جزئيّاً، أما في الريف حيث عمَّاتها فكانت تشعر بسعادةٍ وامتلاءٍ لا نظير لهما.
وهي هناك تشعر بحريةٍ كبيرةٍ لا تجدها في بيتها. هنا هي مَلِكة مُتوَّجة بالبنفسج والجوري، كانت عمَّاتها يُحسِن تدليلها وكانت بناتهن يفرحن بوجودها معهن ويتسابقن لمُسامرتها ووضع أسرارهن الصغيرة في أذنيها الودودتين.
فقد كانت كلّما أتت تحصد ما في صدورهن من أسرارٍ ومن أمانٍ وتعرف أكثر من أمهاتهن ما تتطلَّع إليه كل منهن ومَن شريكها الذي تودّ في حياتها الأُسرية المقبلة. كانت هداياها تُعْتبر نفائس في محيط الأسرة، فلم تكن في عَجًَلةٍ لشرائها بل كانت تنتقي كلّما مرت في الأسواق شالاً لفاطمة أو ثوباً لسعاد أو مرآة جميلة لأحلام. وهكذا تلمّ الهدايا من أركان السوق بل تقطفها كثمارٍ من أشجار الفرح قبل أن تُزْمِع السفر بشهور.
وقفت تنظر ومع أنها سَرَحت بعيداً وعامت أفكارها في وادٍ آخر، غير أنها انتبهت باحثة عن البحر فلم تجده. لا موسيقى ولا تهاد ولا ذهب. أين كل ذلك؟ تساءلت مع نفسها. تُرى هل أخطأت التاريخ وهل سبقها الحصاد إذ تلكّأت عنه؟ هل فاتها المشهد كله؟
عجبت، فقد أحصت الزمن جيّداً ورتبَّت إجازتها كما تفعل كل عام. تقهقرت إلى مطبخ عمّاتها وسألت بلهفةٍ فجاءها الجواب "لا لم تتأخّري، ولكن أيدي السوء أحرقت الحاصل فهلك البحر الذهبي حريقاً وذهب طعامنا لعامنا المقبل مسفوحاً بسوء فِعال الحاقدين، وانتهى رزق أولادنا هباء مع اللهب الأحمر".
حزنت وتأسّفت وامّحت نظرة الحب والتفاؤل والفرح التي كانت تملأ عينيها ضياء ونوراً. غير أنها لم تظهر شيئاً من ذلك لعمّاتها، كي لا تُضاعِف عليهن بلواهن، بل صمتت وأجّلت الخروج للنزهة إلى زمنٍ آخر.
ظنّت أن عمَّاتها في ضيقٍ مادي بلا رَيْب لذا اتّصلت بأكبر أولادها وطلبت إليه شراء مؤونة عام من كل شيء ويُرسلها إلى مزرعة ذويها بيدي ثقة.
كانت هذه مُبادرتها الأولى. كانت تعلم أن زواج إبن عمّها الكبير الذي اختارته المنيّة مُبْكراً إثر مرض عُضال، وهو الصبّي الذي ربَّته العمّات في أحضانهن منذ بكورة أظفاره. نعم كان موعد زواجه قد حان ولكنه لم يحدث بسبب الكارثة التي حلَّت بالحقل. لذا اندّست قبيل النوم مع عمَّتها الكبرى في فراشها ووَسْوَسَت لها: "يا عمَّة أريد أن أحضر معكن فرحة زواج عادل فهو إبن عمّي وتسرّني فرحته وتحقيق أمنيته وأنا أنتظر زواجه مذ زمن. كنت أنتظر دعوتكم لي لحضورها. الآن أنا هنا أريد أن أفرح وأؤكّد انتمائي لأهلي. أسرعي بالتجهيز عمّتي قبل انتهاء إجازتي"، ودسَّت رزمة مالية ضخمة بين يديها. حاولت العمَّة الاعتراض أو الشُكر في الأقل، غير أنها قفزت إلى الأرض ومضت خارج الغرفة بلمح البصر.