آباءٌ على وَرَق
أنا لا أدري أين أبي ومَن هو فأنا لم أره أبداً. إنه إسم على وَرَق.
قسماً لو أني اصطدمت بإحدى كتفيَّ برجلٍ وأنا أحاول أن أعبر الشارع ورفعت عينيَّ إليه لأعتذر وكان هذا الرجل أبي لما عرفته. أتصدّقون؟
مع أني إبنة حلال وأسكن وأبي مدينة واحدة، وأميّ هي شابة جميلة بَرِزة كانت تختال بشبابها وجمالها ووظيفتها وما اكتسبت من عِلم. كل ذلك ولَّد لديها ثقة كبيرة بنفسها. ذات يوم جاء أحد زملائها بصديقٍ له إلى العمل. رآها الصديق فتقدَّم لخطبتها من ذويها، في أيامٍ معدودةٍ أصبح زوجها.
كل ذلك بما يقتضي الدين والشرع، غير أن الدين والشرع لم يستطيعا الوقوف على طويّة الرجل، فما هي إلا بضعة أشهر تمرُّ إلا ويتكشَّف عن أمرين أولهما أنه قد تزوَّج سابقاً وله إبنة من طليقته - لم يرها ولم يسأل عنها منذ كان عُمرها بضعة أشهر - وثانيهما أنه صائِد من نوعٍ جديد.
صائِد ثروات من نوعٍ مُستحدَث. أخذ يستولي على كل مردود عملها ليضعه في جيبه. رغبت أمّي وإسمها ليلى بالتصرّف بمرتّبها لتبرَّ أُمّها ولتقضي حوائجها وتعينه في ما يحتاج بيتهما الصغير، غير أن ذلك لم يكن مما يمكن أن يناقشه هذا الرجل. اشتدّ خلافهما فذهبت وجنينها (أنا) إلى ذويها حتى يصلا إلى حلٍ ما.
غير أن ذلك كان ضرباً لرأسها بجدار. فلم يسأل عنها زوجها كما يقتضي الدين والعُرف واللياقة ولم يتفقّد أحوالها مع الجنين. بعد ولادتها زارها عند ذويها بضعة مرات زيارة باردة من دون أيّما تغيير في موقفه من مشكلتهما.
وبعد مقاطعة أخرى استمرّت عدّة أشهر التجأ إلى محامٍ يبيع ذمّته بالمال، فسعى في طلاقها مُحْرِجاً إياها ومُجرّداً لها من كل حقوقها وأثاثها ومن صداقها المؤخّر ومن نفقتها.
ثم انقطع عن السؤال عن إبنته الثانية (أنا) كما فعل مع الأولى - انتبهوا لي أخت أيضاً لم أرها أبداً ولم ترني وتسكن مدينتي النائمة نفسها. ثم تزوَّج أُخرى وهكذا اتّخذ الزواج مهنة لزيادة أمواله ورأسماله، والحرائر لعبة بيديه، وبناته ها هنا وها هناك يتربّين في حضن أًمّهات أضرَّ بهن الأزواج ولم ينصفهن أحدٌ، أو في أحضان الغرباء.
طلبت المُعلّمة مني أن أحضر أحد أبويَّ إلى اجتماع الآباء والمُعلّمين، قلت: "ولكني لا أستطيع"، سألتني لِمَ؟ قلت: "أما أبي فلا أعرف له عنواناً ولا داراً ولا وجهاً،وأما أمّي فلها زوج غير أبي وأبناؤها منه أحق برعايتها وأحوج". سألتني المُعلّمة "وأنت يازينب أين تنامين ومَن يرعاك؟".قلت: "جدّتي لأمّي وهي إمرأة مُسنَّة وتَعِبة وتحمل بيتاً على كتفيها المُرهقتين ولن أزيد حملها ثقلاً بالمجيء إلى مدرستي، إلا إذا أصررتم".
صمتت زينب هنيهة ثم أخذت تكرّر قولها كأنها ظنّت أن مُعلّمتها لم تفهم ما قالت أو أنها لم تسمعه قط: "أنا لا أدري أين أبي ومَن هو فأنا لم أره أبداً. إنه إسم على وَرَق. أبي هو ما كُتِب في هويّتي ليس إلا. أعرف إسمه فقط، أما شكله وصورته وصوته ولمسة يديه فلا أعرف عن كل ذلك شيئاً. ولو رأيته في الطريق واصطدمت به لما عرفني ولا عرفته. أما أمّي فقد تزوَّجت برجلٍ آخر غير أبي وقد وعدتني أن تأخذني معها بعد أن تستقرّ حياتها وترتّب لي مكاناً لائقاً في بيت زوجها. وأنا الآن في انتظار تحقيقها لوعدها. ولقد بكيت كثيرا ًوتشبّثت بها وبثيابها من دون جدوى. ولقد فهمت من جدَّتي أن أمّي لم تأخذني معها خوف أن يأخذني أبي إن سمع بزواجها كما يقتضي الشرع، لأنها تزوَّجت بغريب عنه". سكتت قليلاً ثم استأنفت: "لكن أبي سمع أو لم يسمع بزواج أمّي لا يعنيه كما يظهر من أمري شيئاً، ولو ألقيت في الطريق وأكلتني الكلاب. ولقد أنجبت أمّي قبل أشهر طفلة من زوجها الجديد ولست أدري إن كان مكاني في قلبها باق أمْ احتلّته اختي الصغيرة.. لست أدري".