ماهر الأخرس.. عنوانُ الصبر والكرامة
على الرغم من تدهور حاله الصحية، لا يزال الأخرس صلباً لا يُهان ولا يُذل، ليدون إسماً آخر يضاف إلى سجل الكرامة.
يأبى الأمل أن يغيب عن قطعةٍ من السماء على الأرض تُدعى "فلسطين". تلك التي لم تمدّ ذراعيها سوى للأحرار. ويتجسَّد هذا الأمل في كل حرٍّ قضى نحبه فداءً لهذه الأرض. وتتردَّد على مسمعنا اليوم قضيّة الأسير ماهر الأخرس الذي أضرب عن الطعام ولا يزال لأكثر من 100 يوم. ولعلَّ ما يجعل المرء صامِداً كل هذه الليالي والساعات هي تلك العزيمة والصبر المُكلّلين بالأمل. فلم يَطِب لهذا الأسير سوى العيش بكرامة ولا يزال يُحارَب من أجلها حتى الرَمَق الأخير، ليس من أجله فحسب، بل من أجل جميع الأسرى في سجون الاحتلال.
في 27 يوليو/ تموز من العام 2020، اعتقل الاحتلال ماهر الأخرس من منزله الكائن في بلدة سيلة الظهر الفلسطينيّة، من دون أيّة تهمة أو ذَنْب. فقال مايكل لينك، المُقرِّر الخاص المعنيّ بحال حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة منذ العام 1967، إنّ قوّات الاحتلال التي اعتقلت الأخرس واحتجزته لم تقدِّم أيّة أدلَّة مُقْنِعة في جلسةِ استماعٍ مفتوحةٍ لتبرير ادّعاءاتها بأنّه يُشكّل خطراً أمنياً.
والجدير بالذِكر أنّ القانون الدولي لا يسمح لدولةٍ ما باستخدام الاعتقال الإداري إلا في حالات الطوارئ، وإن أمكن عَقْد جلسة استماع عادلة يمكن من خلالها للمُحْتَجَز الطعن في المزاعم المُقدَّمة ضدّه.
ومن هذا المنطلق، شرع الأسير ماهر الأخرس بالإضراب عن الطعام رفضاً لاعتقاله الإداري في سجون الاحتلال "الإسرائيلي". وأكَّد الأخرس ثباته على قراره وأنّه لن يتناول الطعام إلا في منزله، موجِّهاً رسالة مفادها أنّ شرطه الوحيد هو الحريّة والعيش بكرامة، فإمّا الحريّة وإمّا الشهادة، ما يعتبره في كلا الحالين انتصاراً لشعبه وللأسرى.
ومن جهةٍ أخرى، رفض الاحتلال الرضوخ إلى مطلبه، وهو أمر ليس بغريبٍ على كيان لا ينفكّ عن خَرْق الأنظمة الدوليّة من دون أيّة محاسبة. ولكنّ هذا الردّ لم يُحْبِط من عزيمة الأخرس بل قوَّاها. فعلى الرغم من تردّي وضعه الصحّي، رفض الأخرس العلاج من قِبَل الأطباء في صفوف الكيان الإسرائيليّ تاركاً وصيّة تقضي بأن يحمل الأسرى القدامى وأهالي الشهداء نعشه.
ويغيب دور الرأي العام والمُنظّمات المعنيّة عن هذه القضيّة، حتى أنّ بعض المؤسَّسات الإعلاميّة تتجاهل مُعاناة الأسير الأخرس وكفاحه، عِلماً أنّ وضعه غاية في الخطورة ويستدعي التدخّل الفوري. وفي زمن التطبيع مع "إسرائيل"، لم تحرّك بعض الدول ساكِناً بل قرَّرت صَرْف النظر، وهذا تصرّف ليس بعيداً عن دولٍ فضّلت العيش بذلّ ولم تفهم معنى الكرامة.
وتكمُن وراء هذه القصّة جملة من القصص لم نسمع عنها كثيراً، ولكنّها تحصل كل يوم. فلمعركة الأمعاء الخاوية مسيرة طويلة خاضها الأسرى الفلسطينيون خلف القضبان. اختار الأسرى الإضراب عن الطعام رفضاً للخضوع لسياسات الاحتلال التعسّفيّة، أي بمعنى آخر فضَّلوا الموت بكرامةٍ على العيش بذلّ.
لطالما كانت أساليب المقاومة مختلفة، فلم يقتصر الأمر على حمل سلاح، بل تعدّاه إلى خوض هذه المعارك، بالكلمات وبالمواقف وحتى بالأمعاء الخاوية وهي أشدّ أساليب المقاومة الاختياريّة. إنّ الأسير ماهر وغيره من الأسرى المناضلين مثالٌ يُحتذى به عن الصبر وتكبّد الأسى من أجل العيش بكرامة. فعلى الرغم من تدهور حاله الصحيّة، لا يزال الأخرس صلباً لا يُهان ولا يُذَلّ، ليدوِّن إسماً آخر يُضاف إلى سجلّ الكرامة. القضيّة ستبقى وإنْ خضع الأذلاء، ستبقى حيّة مع كل شهيد وأسير..