موسم العطريات الطبيعية مع ربيعٍ زاهر
مع أفول موسم زهر الليمون، يتفتّح الورد البلدي، بلون زهري، ينمو غالباً على حفافي البساتين والحدائق المحيطة بالمنازل، ومتى بدأ تفتّح الورود، على صاحب الأرض جمعها يومياً، والاحتفاظ بها لعدة أيام ريثما تكثر، فتستحقّ عناء التقطير.
يمرّ هذا الوقت من العام على حدود موسمين، موسم الزهر، وموسم الورد، من دون أن يقتصر ذلك على هذين الصنفين الربيعيّين، حيث تمتلئ الأرض بشتى أنواع الزهور.
موسم الزهر هو موسم زهر الليمون تحديداً، موسم صناعة، وجنى، ينتظره كثيرون لجمع ما تيسّر لديهم من فوائض أزهار الشجرة السخيّة، التي تزهر دون سواها، مرتين في العام.
يجمع الناس الزهور، منها ما يتساقط نظراً لوفرة الحمولة، ومنها ما يقطفه صاحب الشجرة لتخفيف الضغط عن الأغصان.
رائحة زهر الليمون تعبق وتنتشر اعتباراً من أواخر شهر شباط/فبراير، وتتزايد في آذار/مارس، لتبلغ ذروةً أوائل نيسان/أبريل.
هي زهرة مشرقيّة بامتياز أعطى أريجها تسميات وألقاباً خاصة بالمدن مثل "الشام الفيحاء" حيث وادي بردى يعجّ ببساتين الليمون، و"طرابلس الفيحاء" التي أحاطتها بساتين الليمون.
وازدهر موسم زهر الليمون في المدن الساحلية نظراً لانتشار بساتينه على الساحل، أشجار يناسبها الدفء، ويبطيء عطاءها البرد، كلما ازداد الارتفاع عن سطح البحر.
لم تعرف الأرياف سابقاً شجر الليمون، لكنّ التجارب أوصلت الشجرة إلى مرتفعات وسيطة أمكنها الحياة في جوّ من البرد الخفيف، لكن ليس بسهولة الساحل. والأكثر حاجةً للإنسان من أشجار الليمون هو الليمون الأصفر الحامض، الذي عُرِف في طرابلس اللبنانية بـ"المراكبة" لأن مواسمه المزدهرة أفضت به للتصدير على المراكب، فأعطي هذا اللقب.
وجد أهل المدن في زهر الليمون عطراً جميلاً، فقطّروه للاحتفاظ به في المواسم التي تغيب فيها فاكهة الليمون على أصنافه، وأدخلوه في أطعمتهم، خصوصاً منها الحلويات الشهيرة، واستخدموه لإزالة الرائحة الكريهة من بعض المشتقات الحيوانية، لكنّ أكثر من استفاد منه هنّ النساء في مطلع حملهنّ لمعالجة اضطرابات شهور الحمل الأولى التي تعرف بـ"الوحام".
وطوّر صُنّاع المأكولات صناعة زهر الليمون، فاستخرجوا منه شراب الليمون الصيفي، كما صنعوا من أوراق الزهور مربّى طيّب المذاق على مرارة خفيفة، وهو مربى "زهر الليمون".
أواسط نيسان/أبريل، يشرف موسم الإزهار على الانتهاء، وما يتبقّى على الأغصان ينعقد ثمرات الليمون بأشكال وأصناف مختلفة، منها "الأبو صرّة"، و"الأفندي"، واليافاوي (نسبة لليمون يافا)، والماء الوردي بلون أحمر، والحامض (المراكبة) الأصفر، وسواها من أصناف.
على هامش صناعة ماء الزهر، نمت صناعة المقطّرات الخاصة به، منها النحاسي الغالي الثمن، ومنها الزنك الرخيص الذي أعيد الاعتبار له مع تراجع القدرات الشرائية للمواطنين.
ومع أفول موسم زهر الليمون، يتفتح الورد البلدي، بلون زهري، ينمو غالباً على حفافي البساتين والحدائق المحيطة بالمنازل، ومتى بدأ تفتّح الورود، على صاحب الأرض جمعها يومياً، والاحتفاظ بها لعدة أيام ريثما تكثر، فتستحق عناء التقطير.
يُستخرج "ماء الورد" ويستخدم في المأكولات والحلويات المختلفة، ويدخل في مختلف أصناف الأدوية التي تعالج التهابات العيون، كما يوصف لالتهابات العيون الصيفية، وحساسية العيون.
كما يُصَنّع من الورد شراب الورد بعد غليه بلوغاً لكثافة عالية تُعرف بـ"روح الورد"، وتُستخدم منها ملعقة صغيرة لتحضير كوب منعش ولذيذ صيفاً، خصوصاً متى أضيفت إليه بعض مُكَعّبات الثلج.
القلمون
صناعة الماء العطر -ليمون وورد- منتشرة بحدود معينة في مختلف المناطق، والبلدات، والمدن، لكن مدينة القلمون الساحلية الواقعة على بعد خمسة كيلومترات جنوبي طرابلس، اتّخذت من زهر الليمون، والورد صناعةً واسعة، دخلت كل بيت تقريباً، وأصبحت صناعة أهلية، وذلك منذ أواسط القرن الماضي، وشكّلت مدخولاً مالياً كافياً لإراحة الإنسان، ورفع مستواه الاجتماعي، ومكّنت القلمونيين من تعليم أبنائهم علوماً جامعية عاليةً، سبقوا بها بقية المدن والمناطق.
وتفنّن القلمونيون في صناعات غذائية كالمربيات، والزيت، والزيتون، وحامض الرمّان، فانتشرت محلات العرض على جانبي الطريق الساحلية، وازدهر العمل بها.
ونظراً للحاجة لمقطِّرات لهذه الصناعة، أُنشئت فيها نحاسيّات صنّعت مختلف الأصناف إلى جانب المُقَطِّرات، وجذبت بعض النحّاسين الذين هجروا سوق النحاسة في طرابلس بفعل تراجع الأسواق التقليدية تحت وطأة الحداثة.
وعلى صعيد آخر، استفاد القلموني من صنف من أشجار الليمون هو "الزفير" الذي تمتزج فيه حموضة قاسية على مرارة تجعله غير صالح للأكل، فاستفادوا من زهوره لتعزيز عمليات التقطير، وصنع ماء الزهر.
ونظراً لسماكة قشرة الزفير، ركّز القلمونيون على صناعة مربّى من قشرته بعد معالجتها، يعرف بمربى "الزفير"، وهي صناعة منتشرة في مختلف الأنحاء الريفية.
أمّأ مربى ورق الزهر، فينتقي الصناّع ورقاته الصحيحة السليمة، ويطبخونها باتقان وفن خاص، فتخرج من بين أيديهم أكلة عطرية نادرة.
ازدهرت القلمون في ظلّ صناعة العطريات، واتسعت بيوتها التي أكلت المساحات الكبيرة من البساتين، ولم يبقَ في القلمون من البساتين إلا نسبة قليلة لم تعد كافية لتغطية حاجة الصناعة العطرية، فلجأ صنّاعها إلى بلدات مجاورة يؤمنون منها حاجتهم من الزهور.
على هامش جمع الزهور، وتنظيفها، وتنقيتها، وفرزها، نشأت حرفة منزلية تعتمد على السيدات في بعض بلدات الكورة المجاورة للقلمون، فتحوّلت حرفةً محلية تدعم اقتصاد المنازل.
مع مرور الوقت، تحوّلت الأجيال الجديدة في القلمون إلى الوظائف العامة، والأعمال الحديثة، وبدأت صناعة العطريات تنحسر من الإطار العام، كصناعة منزلية اقتصادية، لصناعة منزلية تغطي حاجة البيت، ولم يبقَ من صناع العطريات المحترفة إلا قلة، لا يتجاوزون أصابع اليد.
ساهم في تراجع صناعة العطريات تحويل خطّ السير الدولي الموصل بين العاصمتين الأولى-بيروت-والثانية-طرابلس- إلى نقطة أكثر ارتفاعاً، فتراجعت الصناعة، ما اضطر السكان إلى اعتماد تصريف إنتاجهم بمبادرات شخصية.
من تبقّى من صناعيي العطور عائلات منها بيضا، وبلوط، وكوسا، وقبيطر، وقوطة وسواهم، تتراوح تصديراتهم بين 400 غالون، و 4 أطنان من ماء الزهر سنوياً، وتُشاهد الغالونات معروضة على الطريق العام، وتوضع في مكان مشمس لتصفية الماء من عِكاره في إثر التقطير.