أنفة بلدة الملاحات و"الريح" والتاريخ والبيئة الجميلة
من أكثر ما تشتهر به أنفة تراثياً هي صناعة الملح الذي يستخرجه سكانها من البحر منذ زمن بعيد جداً، لذلك انتشرت على الشاطئ آلاف البرك التي يتم ضخ مياه البحر إليها بواسطة مراوح هوائية، وتستخدم معها حالياً الطاقة الشمسية لتحريك مضخات آلية لشفط المياه إلى البرك.
على مسافة قصيرة لا تتعدى الـ 5 كيلومترات شمال رأس الشقعة الشهير على ساحل لبنان الشمالي، تزدحم مجموعة من الأثريات والتراثيات التاريخية يعود بعضها لحقب طاعنة في القِدَم في البلدة المعروفة اليوم باسم "أنفة"، وتُعرف تميُزها بأنها بلدة الملّاحات، ومراوح الهواء، والريح، عناصر ثلاثة تجتمع لتشكّل منها عناصرها التاريخية، وسيرورتها الطويلة.
ويؤدي موقعها دوراً تاريخياً نظراً للرأس الذي تقوم عليه البلدة، والذي يشبه الأنف، طوله زهاء الـ 400، وثمّة من يعتقد أن إحدى التفسيرات لتسميتها تنبع من هذا المعطى.
أما أن يكون للرأس دور استراتيجي، فذلك ما تشير إليه بعض معالم البلدة الأثرية، منها القلعة التي قامت على الرأس، ولا تزال بقاياها قائمة، كذلك دير سيدة الناطور الذي قام على حصن في الموقع المعروف برأس الناطور عند الطرف الشمالي للبلدة.
تاريخ قديم
ووفق حفريات وأبحاث جرت بين 1945 و1965 من القرن الماضي على الموقع، فقد عثر على أدوات ومقتنيات تعود لحقبة عصر الحجر القديم الأوسط أي ما بين أعوام 100000 و 35000 ق.م. وتطمح الأبحاث في أن يعود تاريخ الموقع لما قبل ذلك، حتى لعصور ما قبل التاريخ.
وتشير الأبحاث إلى مواقع ومحطات تاريخية هامة في مختلف حقبات التاريخ، ومراحله المختلفة وصولاً إلى العصر الحديث.
جولة على معالم بارزة
في جولة على معالم البلدة البارزة، لا بد من البدء بأهمها، وهي القلعة التي قامت على رأس "أنفة"، حيث تجري عليها حفريات تقوم بها فرق تابعة للمديرية العامة للآثار في وزارة الثقافة اللبنانية، بالتعاون مع فريق من جامعة البلمند، وخبراء أجانب، وبدأت تظهر بعضاً من ملامحها العليا، إلّا أن جدراناً سميكة لا تزال قائمة عند طرفها الغربي، أي عند الرأس، هي بقايا سور القلعة الذي كان يدعمه اثنا عشر برجاً، وكان يفصل القلعة عن الشاطئ خندق مزدوج يناهز طوله مئة متر ويتراوح عرضه بين 12 و15 متراً، وعمقه يتراوح بين 8 و10 أمتار، كان الخندق يملأ بالمياه ليشكّل عازلاً مائياً يصعب عبوره نحو القلعة.
خليج "تحت الريح"
على الجهة اليمنى من تلّة الامتداد البحري إطلالة على الطريق العام، وبين الموقع والطريق العام، خليج صغير يحتمي من الرياح، لذلك أسماه العامة "تحت الريح"، ونشأت عليه مبانٍ سياحية محليّة، يستخدمها أبناء البلدة لمتعتهم، هي شاليهات الموقع، ومطاعم ومقاهٍ متواضعة، ولا يظهر عليها استثمار سياحي كالذي تجذبه المنتجعات الكبيرة القريبة من الموقع.
زوارق صغيرة ترسو في المنعطف البحري، تحتمي فيه من الرياح، وتشكيلات عمرانية بسيطة مثل جسر خشبي، وبعض أبنية متواضعة، والإطلالة عليه من التل تظهر لوحة بحرية جميلة ومتكاملة.
في هذا الموقع، آثار تعود لآلاف السنين، ومنها أدراج محفورة في الصخور، وبقايا غرف هي أيضا محفورة في الصخور، مع مبانٍ صغيرة.
كنائس وكهوف
وتنتشر على الشاطئ مراكز دينية ممتدة من العصور الوثنية تدل على عراقة وقدم تاريخيين، خصوصاً في إحدى المواقع المجاورة لكنيسة تعرف بـ "سيدة الريح"، وقد تم حفر جزء منها في الصخر المشرف على البحر والواقع الى الجهة الشمالية من القرية الحالية، وعلى جنباتها ظهرت بقايا رقع فسيفساء من الطابع البيزنطي.
ثم كنيسة القديسة كاترينا التي تعود في الكثير من أجزائها الى الفترة الإفرنجية، وكانت في ذلك الوقت تحمل اسم "كنيسة القبر المقدّس" قبل أن تتخذ اسمها الحالي خلال القرن السابع عشر.
وكنيسة القديس سمعان ورئيس الملائكة ميخائيل بنيت خلال القرنين السابع والثامن عشر، وعلى الرغم من بعض التقاليد المحلية التي ترجع تاريخ بناء هذه الكنيسة الى عصور أقدم عهداً، فإن أساليب البناء المعتمدة لا تسمح بإرجاعها الى ما قبل القرنين السابع عشر أو الثامن عشر.
ومن الآثار التاريخية الهامة كهفان صخريان يقعان على تل يشرف على البلدة، وعثر في الموقع على بقايا من حيوانات بحرية كالأسماك والصدف المتحجرة.
الكهفان تجويفان كبيران واحد اسمه كهف "الشق" والثاني كهف "العمود"، حوّل أحدهما ناشط بيئي إلى متحف للأدوات القديمة المنقرضة، ولقد عثر عليها المنقبون في الموقع.
صناعة الملح
من أكثر ما تشتهر به أنفة تراثياً صناعة الملح الذي يستخرجه سكانها من البحر منذ زمن بعيد جداً، لذلك انتشرت على الشاطئ آلاف البرك التي يتم ضخ مياه البحر إليها بواسطة مراوح هوائية، وتستخدم معها حالياً الطاقة الشمسية لتحريك مضخات آلية لشفط المياه إلى البرك.
وعلى هامش صناعة الملح نشأت في البلدة مصانع للمراوح التي تحرّك مضخات لضخ مياه البحر إلى البرك، ولا يزال واحد منها عاملاً حتى اليوم، ويقوم صاحبه رامح نخول بتصنيع المراوح، وربما كان آخر من يصنعها على امتداد الشاطئ اللبناني.
وكرمز للبلدة، أقيمت على الطريق الدولي العابر للبلدة عدة مراوح زرقاء من الصناعة عينها، وتشاهد بالعين المجردة لدى العابرين، وكثيراً ما تتحرّك بقوة تحت تأثير الريح.
وأجرت منظمات بيئية مدنية في البلدة محاولات إحياء لصناعة الملح بتجهيز البرك بطواحين الهواء من صنع محلي، فعاد عدد منها إلى العمل، وبقي بهدف الحفاظ للتراث والذاكرة، كما يستمر بعض المستثمرين في استخراج الملح على الطريقة التقليدية.
يغلب على أبنية أنفة الطابع التقليدي اللبناني، ويشير بعض منها إلى ثراء شهدته البلدة، وفي فترة سابقة، تولّت بلديتها ترميم واجهات هذه الأبنية في الشارع العام، وبعض الأحياء الداخلية، وتبنّى الأهالي ترميم منازلهم في بقية الأحياء محافظين على طابعها التراثي.
دير سيدة الناطور
يقع الدير على مسافة 3 كيلومترات شمالي أنفة،تمّ بناؤه تقديراً في القرن الثاني عشر، ولحقت به أضرار كثيرة عبر الزمن، ومنذ ما يقارب العشرين سنة، رمم الدير راهب روسي، وراهبان مساعدان فرنسيان، وغطّوا جدران الدير بـ "فريسكات" (الأيقونات) تحكي قصص الإنجيل ورواياته.
ويعتبر الدير فريداً من نوعه بسبب هذه "الفريسكات" التي جعلت منه حالة مدهشة قلّ نظيرها.