مجزرة في الغابات.. وكبس النشارة بديل للنفط والحطب
تحت وطأة ارتفاع سعر المحروقات النفطية، اتّخذ المواطنون من الثروة الحرجية بديلاً كارثياً للتدفئة.
اعتمد الإنسان منذ القدم على الأشجار للتدفئة، ولاستخدامات النار المختلفة. كان عدد سكان الكرة الأرضية قليلاً مقارنة مع مساحات الغابات الضخمة، فلم يكن قطع الأشجار مؤثِّراً في الغابات.
مع تقدّم الزمن، والتكاثر السكاني، وازدياد حاجة الإنسان إلى الحطب والوقود الشجري، بدأت تتناقص الغابات، وتضمر مساحاتها حتى بات التناقص يساهم في تهديد اتّزان مناخ الأرض.
في لبنان، كانت الجبال مغطاة بطبقة واحدة من الأشجار، لكنّ التقطيع المستمرّ للأشجار لغايات كثيرة، منها التدفئة، وصناعة الخشب، وسقوف المنازل وصل إلى مرحلة انقسام غابة جبال لبنان وتحوّلها إلى بقايا غابات متناثرةً، ومنفصلة عن بعضها على القمم العالية، لكنّ القاسم المشترك بينها يؤكّد هذه النظرية إذ نجد على قمم عكار، والضنية، والأرز، والمكمل، وصنين، والباروك، تجمعات لبقايا غابات قاسمها المشترك نوع الأشجار، وضخامتها، ودهريتها.
الكارثة الكبرى التي حلّت بغابات لبنان، كانت على يد المستعمر البريطاني الذي اتّخذ من غابات الأرز، واللزاب، والشوح قاسية الأخشاب، ركيزة لسكة الحديد التي بناها سادته بين تركيا شمالاً حتى مصر جنوباً، ولا تزال غالبية أقسام السكّة شاهدة على المجزرة البيئية التي ارتكبها الإنكليز بحق غابات لبنان، كذلك بقايا المنشرة التي استخدمها في تقطيع الأشجار الضخمة في القموعة بعكار، أقاصي الشمال اللبناني.
وحفاظاً على ما تبقّى من غابات، وفي أزمنة نادرة مرّت بها السلطات اللبنانية، استصدرت الدولة قراراً بوضع جميع الغابات وكلّ أشجارها، بالحماية الزراعية، ومنع تقطيعها، ولا حتى تشحيلها إلّا بإذن من السلطات المختصة التي أنشأت جهاز "مأموري الأحراج" لمراقبة الغابات، وحراستها، ومنع التعديات عليها، ونجحت في ذلك إلى حدٍّ بعيد.
كان ذلك قبل اندلاع الحرب الأهلية 1975، عندما بدأ انهيار كل شيء، وبدأت الغابات تنال حصّتها الكبرى من الفوضى، رغم ذلك، ظلّ قطع الأشجار خجولاً، لكنّ الإنسان، للتحايل على القانون، اعتمد افتعال حرائق في الغابات لتبرير تقطيعها.
العام الجاري، شهد تراجعاً ملحوظاً في أعداد الحرائق، والمساحات التي أتى الحريق عليها رغم بلوغ حرارة الطقس معدلات غير مسبوقة افترضت ازدياد الحرائق، توازياً مع انفلات مناشير الحطابين على الأشجار، تقطيعاً للحصول على الحطب، والمتاجرة به.
يفسّر المنسّق الإعلامي للمرصد البيئي التابع للحركة البيئية اللبنانية وفيق هوّاري، في حديث للميادين نت، أن "هناك رابطاً بين الحرائق المفتعلة التي حدثت خلال الأعوام الماضية، والتي شكّلت مدخلاً، ومبرّراً للقطع بصفتها أشجاراً محترقة، وبين تراجعها هذا العام مع غياب الرقابة، وما تتعرض له الغابات من مجزرة بيئية تقضي على آلاف الأشجار المعمرة من سنديان وأرز وصنوبر ولزاب باتت مقطوعة ومباعة في الأسواق".
أضاف: "منذ أكثر من عامين، تتعرض الغابات والأحراج في لبنان عموماً، ومنطقة عكار خصوصاً، إلى قطع أشجار وخصوصاً المعمرة منها بشكل غير قانوني ومؤثر في الطبيعة، ويحمل خطراً دائماً على الطبيعة والإنسان لاحقاً، وفي البداية كان المبرر أن الناس بحاجة إلى حطب للتدفئة بسبب ارتفاع سعر المازوت، لكن مجموعات من المواطنين استغلت الموضوع وبدأت عمليات القطع العشوائي لبيع الحطب في مناطق مختلفة وبأسعار مرتفعة تجني من وراء ذلك ثروات ضخمة".
حجة ارتفاع أسعار الوقود
اتّخذ المواطنون من ارتفاع أسعار المشتقات النفطية مبرّراً للاعتداء على الغابات، ومنطقهم يقول، هل نموت برداً، أم نقطع الأشجار؟ أيها أهم: الإنسان أم الشجرة؟
يُذكر أن سعر قارورة الغاز للتدفئة قارب الـ 950 ألف ليرة لبنانية، وسعر المازوت بلغ مليوناً وسبعمئة وخمسين ألف ليرة لبنانية للصفيحة الواحدة، أي أن صفيحتين كفيلتان باستهلاك راتب الموظف.
ممثل موزعي المحروقات في لبنان فادي أبوشقرا عزا الارتفاع إلى ارتفاعه عالمياً من سبعين دولاراً إلى 95 دولاراً.
وفي ظلّ انفلات عمليات القطع بين مجموعات وعصابات متاجرة بالغابات، بدأت أعداد كبيرة من المواطنين تتخذ حجّة الخوف من سرقة أشجارهم لتبرير قطعها.
وعمد آخرون إلى الحصول على أذونات تشحيل من وزارة الزراعة، فاتّخذوا من ذلك مدخلاً لقطع الأشجار تحت غطاء التشحيل. يقول هواري إن "وزارة الزراعة، وبعض البلديات كانت تعطي أذوناً للتشحيل من دون مراقبة، وكانت هذه الأذون مدخلاً للاعتداء على الغابات، والأحراج، حتى بلغت نسبة المساحات التي استهدفتها عمليات القطع حتى اللحظة نحو 25 % من المساحات الحرجية".
وأوضح هواري أن "الذين يقومون بعمليات القطع هم مجموعات من أهالي البلدات يحظون بحماية من نواب سابقين، وحاليين، وبعض رؤساء بلديات، ويستغلّون ضعف القوى الأمنية، أو تواطؤ بعضها للاستمرار بعمليات القطع، كما أن تراخي القضاء في معالجة الموضوع دفع هذه المجموعات إلى استباحة الغابات بطريقة غير قانونية".
لا يملك أحدٌ ردّاً مقنعاً على الواقع الجاري، فلا المواطن يستطيع تأمين وقود نفطي، ولا يمكن له البقاء من دون تدفئة شتاءً، ولا يجد المواطن اهتماماً من السلطات بأمره، لذلك، يُرتقب أن تتواصل عمليات قطع الأشجار، وتصحير الغابات.
وبناء على ذلك، يعتقد هواري أنه "لا بد أن يتضافر الجهد الكثيف ما بين وزارة الزراعة المسؤولة عن التشحيل، وحراسة الأحراج، ووزارة البيئة، بالإضافة إلى البلديات، والمخاتير، والأجهزة القضائية، والأجهزة الأمنية كافة، وبالتعاون مع الحركات البيئية، والناشطين في مختلف البلدات للوقوف في وجه هذه العصابات، وحمايتها من مختلف الاتجاهات، لمنع القطع والمتاجرة بالحطب".
حبوب كبس النشارة
تشكل حبوب كبس النشارة التي وصلت متأخرة إلى لبنان بديلاً هامّاً يغطي حاجة فصل الشتاء، جامعاً السعر القليل، والنظافة، والتدفئة البيئية الصالحة، ويُنَقّي الغابات من فضلاتٍ، كثيراً ما كانت تؤدي إلى اشتعال الحرائق الضخمة في الغابات.
وصلت هذه التقنية متأخرة إلى لبنان، والسبب معروف، وهو عدم رغبة المتاجرين بالنفط في دخول وقود آخر رخيص، ونظيف يضارب على متاجرتهم الضخمة.
بدأت هذه التقنية بالانتشار البطيء، وتشهد عدة مناطق لبنانية عمليات تصنيع لها في مشاغل خاصة مستوردة من الخارج، خصوصاً من الصين، ومن هذه المناطق الشوف، وزغرتا، والبقاع، وعكار.
يتراوح طن المادة بين الـ250-400 دولار للطن، ولا يحتاج المنزل إلى أكثر من طنين في الموسم مهما علا استهلاكه، بالمقارنة مع خمسة براميل مازوت على الأقل للمنزل، كلفتها أكثر من 1300دولار، كحدٍّ أدنى.
حبوب كبس النشارة تعتمد عليها الدول الأوروبية، وكندا، والولايات المتحدة الأميركية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، لكن تجارة النفط اللبنانية حالت دون وصول هذه التقنية النظيفة والرخيصة إلى لبنان، ما عرّض غاباته للتآكل والضمور الكبيرين.