أوراق نقدية لسياق التجربة النضالية للشعب الفلسطيني - 2
يبرز أثر كبير لتعقيدات المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، كمشروع إمبريالي عالمي، في مسيرة الثورة الفلسطينية، التي واجهت ما واجهت منذ أعوامها الأولى.
يُعَدّ الحديث عن القضية الفلسطينية صعباً وشائكاً ارتباطاً بطبيعة الصراع الذي فُرض على الشعب الفلسطيني، وما تعرّض له من عمليات إبادة جماعية وتطهير عرقي من جانب العصابات الصهيونية المدعومة من بريطانيا الاستعمارية آنذاك، بهدف إقامة المشروع الاستعماري الإمبريالي التوسعي الضخم في منطقة الشرق الأوسط، "دولة إسرائيل"، في الأرض الفلسطينية، مستفيداً من موقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي يخدم سياسته الاستعمارية التوسعية في المنطقة والعالم؛ هذا المشروع الذي سيشكّل، وشكل لاحقاً، رأس الحربة للإمبريالية العالمية، والمُدافع عن مصالحها التوسعية في المنطقة، والذي وقع الشعب الفلسطيني ضحيته.
ذلك يؤكد أن الطبيعة التوسعية للمشروع الإمبريالي لا يقع العاتق والمسؤولية بشأن مجابهته على الشعب الفلسطيني وحده، بقدر ما يدخل في ذلك العاملان الإقليمي والقومي، بصورة كبيرة، نتيجة للتداعيات الخطرة التي ما زال يشكلها هذا الكيان الإحلالي على المنطقة، بارتباطاته الدولية المعقدة.
لذا، فإن لتعقيدات المشروع الاستيطاني الإحلالي الصهيوني في فلسطين، كمشروع إمبريالي عالمي، أثر كبير في مسيرة الثورة الفلسطينية، التي واجهت ما واجهت منذ أعوامها الأولى:
أولاً: من انعدام القراءات الدقيقة لطبيعة المشروع وارتباطاته التي جاءت معه، واستكمل حلقاتها في الإقليم مع عدد من المنظومات الرسمية العربية التي ارتبط وجودها واستمرارية بقائها بالاحتفاظ بعلاقات معينة بالمنظومة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية القائمة.
ثانياً: التحولات الجذرية التي حدثت مع الثورة الفلسطينية، والمتمثلة بأحداث أيلول/سبتمبر المؤلمة، والتي أدّت إلى إخراج المقاومة الفلسطينية من الأردن إلى لبنان. وبالتالي، خسرت الثورة واحدة من قواعدها الاستراتيجية المهمة لها.
فكيف قرأت القيادات الفلسطينية المشهد العام في حينه، وما الاستراتيجية التي خطّتها لنفسها ارتباطاً بتلك التحولات المذكورة؟
شخّص القيادي في حركة فتح صلاح خلف، أبو إياد، الوضع قائلا: "كانت شعارتنا أكبر من حجمنا ومن سيوفنا".
أمّا قائد الثورة، ياسر عرفات، فقال: "صنّفنا أنفسنا بالشعارات، وفرضنا أنفسنا كأننا البديل من كل الأمة العربية". وأضاف أن خطأ الثورة الأساس أنها تصوّرت نفسها بديلاً من حركة التحرر العربي. لذلك، أُغلق عليها من كل جانب. قد تكون الثورة طليعة لنضال الأمة، لكنها ليس بديلاً منها.
وفي حديث للرفيق نايف حواتمة، الأمين العام للجبهة الديمقراطية، قال فيه: مخطئ مَن يظن، ولو لدقيقة واحدة، أن شعب فلسطين وحده مطالَب بمجابهة القوى الغازية والمعادية، ممثّلةً، في التاريخ المعاصر، بالحركة الصهيونية و"إسرائيل" والقوى الإمبريالية العالمية، وعلى رأسها الإمبريالية الأميركية. وأضاف أن النضال ضد "إسرائيل" مرتبط بالصراع ضد الإمبريالية على امتداد الأرض العربية. واستطرد أنه اتضح أيضاً أن صيغة العلاقات بالأنظمة العربية، بديلاً من العلاقات المباشرة بالجماهير العربية في حركة التحرر الوطني، أورثت المقاومة موقفاً سلبياً من الجماهير العربية، برز في شكل صارخ في عملية أيلول/سبتمبر.
وفي السياق ذاته، أصدرت الجبهة الشعبية بياناً جاء فيه أن التجاوز الحقيقي والتاريخي لمأزق المقاومة رهن بنمو حركة التحرر العربي، لتصبح المقاومة جزءاً من حركة الجماهير العربية الواسعة والعريضة، والتي هي قادرة على امتلاك العمقين البشري والجغرافي، اللَّذين يمكّنانها من الانتصار.
إن الاقتباسات لصلاح خلف ونايف حواتمة وياسر عرفات، هي من كتاب "الفكرة والدولة: صراع الحضور الفلسطيني في زمن الانتكاسات"، للكاتب والمناضل الفلسطيني، داوود تلحمي، والمقدمة في ورقتنا من أحزاب وشخصيات قيادية فلسطينية، هي تعبير واضح وصريح عن المأزق الاستراتيجي الذي دخلت فيه الثورة الفلسطينية منذ أعوامها الأولى، وتقديم التقييم النقدي الدقيق في مسيرة الثورة، بالإضافة إلى تعقيدات المشهد، إقليمياً ودولياً، والذي شكل وما زال يشكّل بدوره واحدة من العوائق الجادة أمام إنجاز مرحلة التحرير الوطني الفلسطيني.
يتبع..