في الإمارات.. آخر رجل يتكلم
الدولة الوحيدة في العالم التي ابتكرت وزارة للسعادة ما زال عشرات النشطاء يقبعون داخل سجونها غير سعيدين طبعاً، هذا لأنهم لم يتبعوا دليل السعادة الرسمي. أما وزارة التسامح التي سجّل وجودها في الإمارات حصراً فيبدو أن لها أهدافاً تنسجم مع الدور الجديد في المنطقة.
تبدي الإمارات العربية المتحدة اهتماماً ملحوظاً بالأرقام. ترسم على وجهها ابتسامة على شكل جزيرة من نخيل وهي تحطّم أرقاماً مسبوقة وتصنع على أنقاضها أرقاماً قياسية. طريقتها في الإبهار وفي صنع علامتها التجارية لا تقف عند ذلك. تحبّ أبو ظبي دائماً تحدّي الممكن وصنع المستحيل. هذا ما ترغب بالإيحاء به أو تكريسه في أرجاء المعمورة لاسيما في أذهان الرأي العام الغربي. واحة من الرخاء والازدهار والانفتاح وسط صحراء من الجدب. ربما ساعدتها على ذلك الصورة النمطية الغربية عن السعودية التي تستدعي مقارنة تخرج فيها الإمارات منتصرة دائماً عند من يجهلون طبيعة المنطقة وتاريخها.
من هنا جاء برج خليفة، أطول ناطحة سحاب في العالم. المبنى ينطوي ضمناً على أعداد أخرى من الأرقام القياسية العالمية: أعلى شرفة مراقبة، أعلى مسجد (سبحان اللهّ!)، أعلى مجمع شقق سكنية، أعلى مصعد، أعلى مطعم، أكبر عدد من الطوابق على مستوى أبراج العالم. لكنّ فوق المبنى المُنتصب كدليل على قصة نجاح هناك قصة أخرى تخفيها الأضواء الساطعة والغيوم الاصطناعية.
بين ليلة وضحاها تحوّل اسم البرج من "برج دبي" إلى "برج خليفة". حدث ذلك عندما تهاوت إمارة دبي كبرج من ورق نتيجة أزمة الائتمان العالمية التي بدأت من أميركا عام 2009. سرعان ما انهارت الأسواق المالية والعقارية في دبي التي اضطرت إلى الاقتراض من أبو ظبي عشرات مليارات الدولارات على دفعات قبل أن تعيد تمديد آجال الاستحقاق. هكذا تحوّل برج دبي إلى برج خليفة تيمّناً بحاكم أبو ظبي.
رقم واحد
خلال احتفالات رأس السنة للعام 2019 نجحت الإمارات في تحطيم أرقام قياسية جديدة. إمارتا أبوظبي ورأس الخيمة سجّلتا اسميهما في موسوعة "غينيس"، من خلال تنظيم أضخم عرض ألعاب نارية بطول 1000 متر على الأرض، مدته 20 دقيقة في أبوظبي، بينما دخلت رأس الخيمة الموسوعة العالمية بأطول سلسلة وأطول خط مستقيم للألعاب النارية.
ومع نهاية عام 2018 أضافت تلك الدولة إنجازات جديدةً ضمنتها إلى "غينيس". إنجازات من نوع: أكبر عدد من الجنسيات المشاركة في الإنعاش القلبي الرئوي، وأطول مسار تم إعداده بصناديق الإسعافات الأولية، وأكبر كرة زينة احتفالية بموسم أعياد الكريسماس، وإطلاق أكبر مظلة.
من بين أرقام سائر الإمارات تستأثر دبي بأكبر مجمّع تجاري في العالم، وأكبر مُنتجع داخلي للتزلّج، وأطول متاهة عمودية في العالم ، وأكبر عدد غرف فندقية، وأكبر عدد مشاركين في لعبة القطار السريع، وأغلى سباق خيل في العالم، وأكبر حديقة مائية عائِمة في العالم. إلى ذلك أضافت العام الماضي إنجازات جديدة من قبيل أكبر شاشة عرض جوية ظهرت في السماء، وأطول مسار انزلاقي في العالم، وأكبر رقصة بالسيارات.
كل ذلك ينسجم مع ما حدّده بوضوح قبل سنوات حاكم دبي الشيخ محمّد بن راشد. أمانيه تستوجب التنفيذ. "نحن لا نرضى عن المركز الأول بديلاً، ودبي والإمارات هما رقم واحد من حيث الاستثمار والأمن والحياة المستقرّة والنهضة الاقتصادية والاجتماعية والبنية التحتية".
وزارة السعادة.. هيّا نفرح
أكبر وأغلى، أغلى وأطول.. أرقام، مزيد من الأرقام، أرقام تتحدّى أرقاماً. حتى عام 2016 كانت الإمارات تستأثر بنصف الأرقام القياسية لجميع الدول العربية في موسوعة "غينيس". بإمكان الإمارات طبعاً أن تستغلّ حرب اليمن لإضافة المزيد من الأرقام إلى قائمتها. عندها يمكن إضافة أكبر عدد من الأطفال الذين يموتون جوعاً، وأطول حرب تشنّها دولة عربية على شعب عربي، وأطول حرب فاشلة على شعب فقير. لكن بما أن الفشل تعبير لا يستسيغه حكّام الإمارات لذا يُستحسن إبقاء اليمن خارج اللائحة.
يبقى أن الإبهار الذي تعتمده الإمارات في تصدير صورتها إلى الخارج لا يقتصر على الأرقام. في المشاريع السياسية والاقتصادية التي تعتمدها هناك حرص دائم على تسويق فرادة البلاد. في هذا الإطار تأتي وزارة السعادة التي تم إنشاؤها عام 2016. وزارة هي الأولى من نوعها على مستوى تاريخ الحكومات في كل دول العالم كما تحب أبو ظبي أن تصوّرها.
بعد ثلاث سنوات على إطلاقها أعلن نائب رئيس دولة الإمارات وحاكم دبي الشيخ محمّد بن راشد عن إطلاق وزارة جديدة سُمّيت بوزارة "اللا مستحيل". تخلل ذلك أيضاً إنشاء "وزارة التسامح" التي من أهدافها " إلغاء الفوارق العنصرية والسياسية بين الشعوب والأمم"، و"عدم السماح للضرورات الفردية العقائدية والمذهبية بأن تطغى على الضرورات الإنسانية".
رعت الوزارة "المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية" بالتزامن مع زيارة البابا فرنسيس غير المسبوقة إلى الإمارات في فبراير شباط هذا العام. المؤتمر احتفت به وسائل إعلام إسرائيلية كونه مثّل أول اعتراف رسمي للحكومة الإماراتية بوجود جالية يهودية في البلاد. وشارك في المؤتمر، الذي يذكّر بمركز حوار الأديان الذي أسّسه الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، حاخام كنيس باريس الكبير موشيه سيباغ.
وذكرت صحيفة "يديعوت أحرنوت" إن الإمارات دعت إلى المؤتمر الحاخام الأميركي مارك شناير، مؤسّس صندوق التفاهم بين الديانتين اليهودية والإسلامية، المعروف بعلاقاته القوية في الخليج.
وفي شهر ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، كشفت وكالة "بلومبرغ" الأميركية أن دولة الإمارات سمحت للطائفة اليهودية في دبي، بإنشاء أول كنيس يهودي لها في المدينة، وذلك بمباركة من حكومة دبي.
وأشارت الوكالة إلى أن هذه الخطوة تأتي مع زيادة الدفء في العلاقات بين إسرائيل والدول الخليجية، وأيضاً في ظل محاولة الإمارات الظهور في صورة الدولة المُتسامِحة.
المُفارقة أن هذا "التسامح" أفضى إلى أول زيارة رسمية ومُعلَنة لمسؤول إسرائيلي إلى الإمارات، لكنه لم ينسحب على حرية الرأي والتعبير داخل البلد "المعتدل" الذي ما زال يقبع عشرات النشطاء الإمارتيين داخل سجونه.
وفي أواخر تشرين الأول أكتوبر من العام الماضي شكّلت زيارة وزيرة الثقافة الإسرائيلية محطة مفصلية ضمن مسار "التسامح" الإماراتي. ميري ريغيف لبّت دعوة رسمية من محمّد بن زايد الذي احتفى بها في مسجد الشيخ زايد بن سلطان حيث قالت وهي ترتدي الحجاب: "توجد في هذا المسجد رسالة محبة وسلام". يا سلام!.
"عام التسامح" يدعو إلى الريبة
أعلنت الإمارات عام 2019 عاماً للتسامح. خلال الشهر الحالي تمّ الإعلان عن تعيين يهودا سارنا حاخاماً للجالية اليهودية في الإمارات خلال حدث استضافته منظمة يهودية وسفارة الإمارات في واشنطن حول "التسامح مع الأديان". الحدث رعته "رابطة مكافحة التشهير" اليهودية، وسفارة الإمارات في واشنطن للترويج لصورة الدولة في الولايات المتحدة الأميركية.
الحاخام سارنا هو قسيس جامعة نيويورك في أبوظبي. وقال سارنا، في مقابلة مع صحيفة "هآرتس" "إن هناك مئات اليهود في الإمارات من جميع أنحاء العالم، ما نراه هو أول ظهور لأول مجتمع يهودي جديد ناشئ في العالم العربي منذ قرون".
ويتزامن عام التسامح الإماراتي مع العام الذي يُفترَض أن تعلن فيه صفقة القرن. عام سبقته خطوات تمهيدية باتجاه التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وينتظر أن تشكّل المنامة محطة انطلاق للصفقة حيث تستضيف بالشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية ورشة عمل اقتصادية تحت عنوان " السلام من أجل الازدهار" في يومي 25 و26 حزيران يونيو 2019، كجزء أول من "خطة السلام الأميركية في الشرق الأوسط".
لم تتوان الإمارات عن إعلان دعمها ومشاركتها للورشة التي من المُنتظر أن تشارك فيها إسرائيل رسمياً رغم الإجماع الفلسطيني على رفضها والدعوة إلى مقاطعتها.
آخر رجل يتكلّم
"الاعتدال" الإماراتي و"التسامح" السياسي عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل والجالية اليهودية في الإمارات لا يشمل على ما يبدو مواطني الدولة أو المُقيمين فيها حين يتعلّق الأمر بحرية الرأي والتعبير أو نقد سياسات الدولة ومن بينها تلك المتّبعة في المنطقة.
وبحسب منظمة فريدوم هاوس (بيت الحرية) يعتبر قانون المطبوعات والنشر الإماراتي، واحداً من أكثر قوانين الصحافة تقييداً في العالم العربي، حيث ينظّم جميع جوانب وسائل الإعلام ويُحظّر انتقاد الحكومة.
وتذكر منظمة "مراسلون بلا حدود" في تقريرها السنوي إن الإمارات أصبحت رائدة في المراقبة الإلكترونية للصحافيين الذين أصبحوا أهدافاً دائمة بعد أن تمّ إقرار قانون الجرائم الإلكترونية عام 2012.
وتحتل الإمارات المرتبة 133 عالمياً في مؤشّر "مراسلون بلا حقوق"، بعدما كانت في المرتبة 128 العام الماضي، والمرتبة 119 عام 2017.
وتقول منظمة "مراسلون بلا حدود": "أصبح الصحافيون والمواطنون والمدوّنون هدفاً للسلطات بمجرّد تقديمهم أيّ نقد. ويقع اتهامهم عادة بالقَذْف والإساءة إلى الدولة ونشر أخبار زائفة قصد المسّ بصورة البلاد، وتهدّدهم عقوبات سجنية ثقيلة ويتعرّضون إلى معاملة سيّئة".
بدوره يُسلّط رئيس المجلس الاستشاري في مركز الخليج لحقوق الإنسان جو ستورك الضوء على قمع المعارضين السياسيين في الداخل، ويعدّه صورة مُغايِرة للمحاولات التي تبذلها الإمارات لإظهار نفسها بأنها تعمل على تعزيز التسامح. ستورك الذي عمل سابقاً نائب مدير قسم الشرق الأوسط في منظمة "هيومن رايتس ووتش" يلفت إلى أن يوم 29 أيار/مايو الماضي صودفت الذكرى السنوية الأولى للحكم الصادر عن غرفة أمن الدولة في محكمة الاستئناف الاتحادية في الإمارات العربية المتحدة بحق الناشط أحمد منصور والذي قضى بسجنه عشر سنوات وإرغامه على تسديد غرامة تفوق قيمتها ربع مليون دولار، بتهمة الإساءة إلى "سمعة الإمارات ومكانتها"، بما في ذلك حكّامها، ونشر تقارير كاذبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بهدف الإضرار بعلاقات البلاد بالدول المجاورة.
وكان منصور، قبل توقيفه في 20 آذار/مارس 2017، يردّد مُتهكّماً أنه "آخر رجل يتكلّم" في الإمارات، في إشارة إلى أن السلطات أقدمت، خلال الأعوام السابقة، على زجّ جميع الناشطين الحقوقيين الإماراتيين تقريباً ومحاميهم في السجون.
وبحسب موقع "open democracy" تعتبر المنظومة السياسية في الإمارات هي من الأقل إشراكاً في العالم.
والإمارات شديدة الحساسية حيال جماعة الإخوان المسلمين التي صنّفتها السلطات منظمة إرهابية منذ العام 2014. واعتباراً من أواخر آذار/مارس 2012، أوقفت القوى الأمنية أعداداً كبيرة من الإماراتيين لارتباطهم بجمعية الإصلاح التي تعبّر عن الجماعة رغم إنها منظمة غير حكومية مُسجّلة رسمياً منذ العام 1974. وعندما مَثُل المدّعى عليهم من جمعية الإصلاح أمام المحكمة في مطلع آذار/مارس 2013، كانت أعدادهم قد ارتفعت إلى 94.
وبحسب الباحث جو ستورك مثّلت محاكمة مجموعة "الإمارات 94" القضية الأكبر التي هدفت إلى سحق مختلف أشكال المعارضة السلمية.
رغم ذلك يلاحظ ستورك أن واشنطن تلتزم الصمت حيال القمع المُتفشّي في الإمارات، وقبل وقت طويل من وصول ترامب إلى سدّة الرئاسة. فعلى مدى الأعوام العشرة الماضية لا وجود لانتقاد علني واحد صادر عن واشنطن أو وزارة الخارجية الأميركية في ما يتعلق بسجل الإمارات في حقوق الإنسان.
خلف ناطحات السحاب
سجل الإمارات في حقوق الإنسان لا يقتصر على الداخل الإماراتي، بل بات يطال دول المنطقة من اللحظة التي قرّرت فيها أبو ظبي الانخراط في الحراك الإقيلمي بموازاة الربيع العربي. وتتهم الإمارات بأنها ترعى ما بات يُعرَف بـ"الثورات المضادة" على شاكلة دعمها للحكم العسكري في السودان بمواجهة المطالب الشعبية.
أواخر شهر مايو أيار المنصرم تناولت صحيفة "لوبوان" الفرنسية ما سمّته "أدوار الإمارات الفوضوية والاستبدادية" في دول المنطقة. في هذا الإطار وجّه باحث العلوم السياسية في "الجامعة الحرة" في بروكسل سيباستيان بوسوا نقداً لاذِعاً لدولة الإمارات، على خلفية الدور السلبي الذي تلعبه في مسارات التحوّلات السياسية التي تعيشها بعض دول المنطقة. واعتبرت المجلة أن هذه الدولة، التي تظهر اليوم كوسيط مثالي في الأزمات، تطبّق "الوصفة" ذاتها في كل مكان، وهي خنق الديمقراطية.
وقال الباحث السياسي إن التصوّر الذي بناه كثيرون حول الإمارات بأنها جزيرة ليبرالية وسط أرخبيل الملكيات الخليجية المحافظة، هو في الحقيقة وَهْم. "فخلف ناطحات السحاب البرّاقة، والصورة التي عمل الإماراتيون على رسمها بعناية، تحوّلت الإمارات خلال السنوات الماضية إلى دولة بوليسية، دولة استبدادية لا تبحث فقط عن قلب مكتسبات الثورات، بل أيضاً فرض أيديولوجيتها الأكثر مكيافيلية، حتى من السعودية التي نعتاد أن نركّز عليها"، بحسب رأيه.
وعدّدت المجلة نماذج عن سلوك الإمارات "التخريبي" في تونس وسوريا ومصر، وصولاً اليوم إلى الجزائر.
ومن الجزائر، انتقل بوسوا إلى اليمن، حيث "تدّعي الإمارات أنها تعمل على سياسة إنسانية منذ سنوات مع السعودية، فإن الحرب هناك أفرزت أسوأ كارثة إنسانية في العالم". أما في ليبيا، التي لم تصل إلى شيء بعد ثماني سنوات من الصراع، فقد كشفت قناة "بي بي سي" أخيراً ما صفته بجرائم الحرب التي ترتكبها أبوظبي هناك، بعد فضيحة السجون الإماراتية في اليمن حيث يمارس التعذيب.