منظومة العقوبات مؤسّسات دولية كسلاحٍ للسياسة الخارجية الأميركية
مع تحليل كل أزمة من الأزمات الكثيرة التي تجتاح عالم العلاقات الدولية اليوم، يدور البحث بعيداً في النتائج والأسباب والعوامل، في دوّامةٍ متكرّرة لا تتغيّر، ويعود إلى أول الحلقة، الاستحكام المتين برباط الاقتصاد.
هذا العنوان الذي استخدم تاريخياً لإخضاع الأعداء وإجبارهم على التنازل أو الاستسلام، وآخر النماذج الكبرى كان إخضاع قوّة "نصف الأرض" أيّ الاتحاد السوفياتي السابق. كيف يتمّ ذلك؟ وما هو سرّ هذا النظام الاقتصادي الدولي الصامِد أمام المُتغيّرات والعصّي على الاختراق؟ كيف تمّ صوغه؟ وكيف تخدم آلياته سيّده الأكبر؟ وأين الطريق للفكاك منه؟
بعد انتهاء الحرب الحرب العالمية الثانية وخروج الحلفاء مُنتصرين منها، كانت عين الولايات المتحدة الأميركية على التفرّد بقمّة العالم. وقد ساعدها في ذلك انشغال خصومها لملمة ذيول الهزيمة النكراء، وانشغال حلفائها باستعادة القوى الخائِرة اقتصادياً وعسكرياً بعد حرب ضارية ومُدمِّرة.
كانت الولايات المتحدة الأميركية هي المُنتصِر الأقل تضرّراً من مجريات الحرب. وقد استبقت حلفاءها في تأسيس الأطر الدولية الضامنة لسيطرتها عليهم وعلى العالم لاحقاً.
قبل عام تقريباً من نهاية الحرب، انعقد مؤتمر الأمم المتحدة النقدي والمالي في مدينة بريتون وودز الأميركية، لبحث إعادة إعمار ما دمّرته الحرب في أوروبا ومشكلات الأسواق المالية والتجارة العالمية. وفي الوقت نفسه، كانت أسس المؤسّسات المالية الدولية توضع بهدوء في مراكز التفكير وفي الأوساط الأكاديمية في الولايات المتحدة وبريطانيا. وقد نتج من اجتماعات بريتون وودز ما أصبح يُعرَف لاحقاً بـ"مؤسّسات بريتون وودز".
وصل المجتمعون في بريتون وودز إلى اتفاقية لتأسيس نظام نقدي دولي لفترة ما بعد الحرب يستند إلى قابلية العملات للتحويل في ما بينها، مع تحقيق ثبات نسبي في أسعار الصرف وتشجيع التجارة الحرّة.
وأنشأت اتفاقية بريتون وودز مؤسّستين هما: البنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي يختصّ بعملية إعادة الإعمار في أوروبا (بدأ عمله في حزيران-يونيو 1946) وعمل على الإقراض في مشروعات البنية الأساسية والرعاية الصحية والتنمية البشرية ومكافحة الفقر والأميّة وغيرها من القضايا. وكانت المؤسّسة الثانية صندوق النقد الدولي، التي أوكلت إليها مهمّة إدارة النظام النقدي الدولي لتحقيق الاستقرار في أسعار الصرف.
في نهاية السبعينات وبعد حرب فييتنام، أوقف الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون نظام تحويل الدولار إلى ذهب، مُعتبراً أن ضمانة الدولار ستكون من الآن فصاىداً قوّة الاقتصاد الأميركي بحد ذاتها، وليس الذهب. لقد أنهى قرار نيكسون مرحلة الثبات في أسعار صرف العملات، وأطلق عملياً مرحلة تحرير سعر الصرف، الذي أصبح لاحقاً أداةً فتّاكة بيد واشنطن ضد اقتصادات الدول التي تظهر تمرّداً على إرادتها في العلاقات الدولية. عِلماً أن هذا الثبات في سعر الصرف كان الهدف الأهم لتأسيس صندوق النقد الدولي. فتحوّل الصندوق منذ ذلك الوقت إلى مؤسّسة تمارس فيها الولايات المتحدة نفوذها المُرهِق لأخصامها. وبات الصندوق يفرض على أعضائه من الدول المُقترضة شروطاً قاسية تضعهم تحت أعباءٍ ثقيلة. وانطلق مسار جديد يخدم الدول الصناعية الكبرى على حساب الدول النامية.
وإلى جانب صندوق النقد، تمّ التوقيع سنة 1947 على "الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة" والتي عُرِفت باسم "غات"، وقد تأسّست لتؤمّن مبدأ الدولة الأولى بالرعاية، لعدم التمييز في التجارة بين الدول، ومعاملتها على قدم المساواة في مجال الرسوم الجمركية. وأن تقوم حماية الصناعة المحلية على أساس التعريفات الجمركية وحدها، لإتاحة المنافسة. بالإضافة إلى مبدأ ثالث وهو أن الأساس اللازم لتحقيق الاستقرار والنمو في التجارة يتمّ من خلال الالتزام بمستويات التعريفة الجمركية التي يتفق عليها البلدان الأطراف.
لقد قدّمت هذه الاتفاقية إطاراً بدأ يبلوَر قانونياً لتسهيل التجارة ومعالجة مشكلات التعريفات الجمركية وأنتج بعد جولات أربع من المفاوضات تأسيس منظمة التجارة العالمية عام 1994، بعد أن عطّلت الولايات تأسيسها في إطار مؤسّسات بريتون وودز.
تترك منظمة التجارة العالمية مساحةً أكبر للنقاش بالنسبة للدول النامية مما تتركه مؤسّستا صندوق النقد والبنك الدوليين، نظراً لاختلاف طبيعة هذه المؤسّسات، واختلاف موازين القوى داخلها. وهذا ما أعطى دولاً نامية فرصة تحقيق قفزات إلى الأمام على صعيد التجارة الدولية.
بموازاة تأسيس المؤسّسات المالية الدولية بعد الحرب، تأسّس حلف شمال الأطلسي "الناتو" عام 1949، ليشكّل الحامي العسكري لتحالف الحضارة الغربية الذي سيستمر حتى يومنا هذا. ومع أن دوره كان خلال الحرب الباردة مُنصبّاً على التوازن مع قوةّ حلف وارسو الذي يتزعّمه الاتحاد السوفياتي، فإن تغيّرات عديدة أدخلت إليه جعلته يشكّل رابطاً قِيَمياً لمجتمع شمال الأطلسي إلى جانب دوره الدفاعي. لقد توسّع هذا الحلف نحو الشرق، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق الذي شكّل الناتو عنصر ضغطٍ عسكري عليه، أعطي هذا الأخير أدواراً جديدة مرتبطة بالحرب على الإرهاب ليستمر بعد انهيار وارسو.
لقد استخدمت الماكينة الغربية أدوات متنوّعة لتطويع الخصوم وإخضاعهم، فشكّل "الناتو" و"صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" وغيرها من المؤسّسات أيدي الأخطبوط الأميركي للإمساك بالعالم، والضغط على رقاب الدول غير الخاضعة للسيطرة، أو تلك التي تُبدي ممانعة للإرادة الأميركية.
ماكنمارا من منصّة الدبابة إلى منصّة البنك الدولي
وشكّل انتقال روبرت ماكنمارا عام 1968 من وزارة الدفاع الأميركية إلى رئاسة البنك الدولي نقطة تحوّل في أساليب الحرب الاقتصادية الأميركية على الخصوم. لقد عُرِف ماكنمارا بمهندس حرب فييتنام. بل إن هذه الحرب سُمّيت في وقتٍ من الأوقات "حرب ماكنمارا". لكن هذا الأخير انقلب على أفكاره المؤمنة بالقوّة العسكرية مع تقدّم الحرب، وثبوت عدم جدوى القصف الجوي في تحقيق الانتصار فيها، ومُعاناته التي طالت مع تزايد توابيت الجنود العائِدة إلى أميركا.
تسلّم مهندس الحرب رئاسة البنك الدولي بين عامي 1968 و1981، ليرسم سياسة التطويع الاقتصادي التي خنقت الدول المنافسة للولايات المتحدة. فقد استطاع إقناع الدول الأعضاء بزيادة القروض المُخصّصة لأغراض التنمية في مشروعات التعليم والصحة والغذاء وغيرها. وشكّلت هذه السياسة إغراءً للدول المنضوية في إطار الاتحاد السوفياتي، التي كانت تعاني من الصراع الاقتصادي والتسليحي المفتوح مع الغرب، فكانت الأموال تُغدَق من البنك الدولي على دول نامية مُشابهة في أوضاعها لأوضاع دول الاتحاد السوفياتي الفقيرة، الأمر الذي ساهم قي تقويض ثقة هذه الدول بجدوى موقفها في الحرب الباردة الطويلة والمُنهِكة.
في ذلك الوقت بدأ التحوّل من الحرب العسكرية المباشرة، إلى عهد الريغانية (نسبةً إلى الرئيس رونالد ريغن) التي ركّزت على الإنهاك الاقتصادي. أسس هذا المبدأ كان قد تحدّث عنها ماكنمارا في كتابه "مئة بلد، وملياران من البشر: أبعاد التنمية " الصادر عام 1973. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي تحت وطأة الضغوط الاقتصادية الكبيرة، أُعلن انتصار الولايات المتحدة في نمطها المُبتكر، الحرب الاقتصادية التي تشكّل المؤسّسات الدولية والدولار أعمدتها الأساس.
سلاح العقوبات ودور المؤسّسات المالية الدولية في سَلْب القرار السيادي للدول
تعتمد الولايات المتحدة سلاح العقوبات منذ سيطرتها التامة على النظام الاقتصادي الدولي وعلى النظام الدولي بصورةٍ عامة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فمنذ ذلك الوقت، أصبحت الحرب العسكرية وسيلةً غير مُربِحة إجمالاً، إذا تمّت مقارنتها بالضغوط الاقتصادية والعقوبات. وهذا ما أثبتته حروب جورج بوش الإبن، مُقارنة بحروب ترامب الاقتصادية اليوم.
ويتكوّن السلاح الجديد في هذه الحرب من ثُنائية العقوبات والمساعدات. العقوبات تفرضها واشنطن بنفسها، أو مع حلفاء لها ضد دولة أو أكثر للحصول منها على سلوك سياسي أو اقتصادي معيّن. أما المساعدات فهي المكافأة التي تحصل عليها الدول الأليفة التي تُبدي تعاوناً وترضخ للإملاءات السياسية المُعطاة لها.
وعند تفصيل آليات عمل هذا النمط، تتحلّق حول الماكينة الاقتصادية والسياسة الأميركية مجموعة من الخبراء في الاقتصاد الدولي، يُديرون كبريات مراكز الأبحاث والتصنيف الائتماني حول العالم. تقوم هذه المؤسّسات بتصنيف الدول وفق مراتب وتعطى علامات تؤشّر إلى مدى أمان الاستثمار فيها، وتعبّر عن مدى قوّة اقتصادها والتطلّعات المستقبلية بشأنه ، وترشد المستثمرين من الدول والمؤسّسات والأفراد إلى الاستثمار في هذه الدول أو عدمه.
وتجهد الدول لتحقّق تقدّماً في تصنيفها على مقياس هذه المؤسّسات، ذلك أن تأخّرها في الترتيب الذي تصدره مؤسّسات التصنيف يؤدّي بسرعة إلى تدهور أحوالها الاقتصادية، والمالية تالياً، خصوصاً إذا كان اقتصادها ذا بنية ضعيفة، أو كان يعتمد على قطاعاتٍ غير مُنتجة وسهلة التأثّر بالعوامل الخارجية.
لكن الأخطر من ذلك، هو أن هذه المدرسة الاقتصادية والمالية المُسيطرة بنسبةٍ عالية على كُبريات مراكز الأبحاث وعلى مؤسّسات التصنيف الائتماني وعلى المؤسّسات المالية الدولية، وعلى الإعلام الدولي، قد سيطرت أبعد من ذلك على المدارس الأكاديمية وكليات الاقتصاد في معظم جامعات العالم، وعلى أهمها بالدرجة الأولى.
حتى بات المُنتقدون نظرياً لسياساتها، يخدمون توجّهاتها من حيث لا يدرون، على قاعدة أن النظام جيّد، لكن تطبيقنا له سيّىء. وهم يخرجون يومياً على الشاشات حول العالم لإرشاد القادة السياسيين حول أفضل الطرق للالتزام بالإملاءات الموزّعة من المؤسّسات الدولية، للحصول على العلامة الفُضلى وتحسين أحوال الدول. عِلماً أن معظم المُستشارين الاقتصاديين لقادة الدول النامية التي تعاني من الفقر وضعف الاقتصاد، وترزح تحت مديونية عامة هائلة وقاسية، ينتمون بدورهم إلى المدرسة المُدمّرة ذاتها.
هذه الحلقة المُسيطرة، لا تبدو قابلةً للكَسْر. إلا في حالٍ واحدة وفق تصوّرنا. وهي مراكمة الدول الصاعدة وأولها روسيا والصين لعوامل القوّة الاقتصادية، وتأسيس منظومة بديلة للاقتصاد الدولي، ترتكز على عملة احتياط عالمي جديدة قادرة على منافسة الدولار والثبات والاستدامة في مواجهته.
ويلعب مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية المعروف بـ"أوفاك" دوراً بارزاً منذ تأسيسه عام 1950 لغرض محاصرة الأصول المالية والمعاملات التجارية لدول المحور. ويدير المكتب عمليات فرض العقوبات الاقتصادية على الدول والمنظمات والأفراد الذين يهدّدون مصالح الولايات المتحدة. وتحوّل ليكون أبرز أدوات الضغط الأميركية على الدول لتحصيل مكاسب اقتصادية أو سياسية منها. حيث يقوم بإصدار لوائح سوداء لإقصائها من النظام المالي العالمي منعها من التداول وحد حركة عبور الأموال منها وإليها.
لقد استخجم سلاح العقوبات ضد عشرات الدول التي اعتُبِرت خارجة عن القانون في ملفات محدّدة، بحسب الرؤية الأميركية. وتدرّجت من العقوبات الاقتصادية العادية، إلى "العقوبات الذكية" التي تستهدف مواضع بعينها من نشاط تلك الدول. وفي السنوات الأخيرة ركّزت الولايات المتحدة عقوباتها على إيران وفنزويلا وروسيا وكوبا وكوريا الشمالية وغيرها من الدول، حتى وصلت إلى ما سمّي بـ"الحرب التجارية" مع الصين، والتي يتوقّع لها أن تطول. لكن المشكلة بالنسبة لواشنطن هي أن الصين تمثل الشريك التجاري الأول لها، ما يصعِّب من خيارات مواجهتها، وهي أكبر دائِن وحامل ديون أميركية.
فخلال ولاية ترامب فقط اتخذت الولايات المتحدة الإجراءات التالية:
- عقوبات مُشدّدة على إيران، شملت تحويلات العملة وقيود على حركة تداول سلع حيوية للاقتصاد الإيراني.
- تشديد العقوبات على روسيا وفنزويلا، ويتوقّع زيادتها على الدولتين.
- الاستمرار بالضغط على اقتصاد كوريا الشمالية.
- عقوبات ضدّ مسؤولين أتراك على خلفية قضية القس أندرو برانسون.
يصرّ الرئيس الأميركي على استخدام سياسة العقوبات بشدّة، ويرى فيها السلاح الأمضى للضغط على اقتصادات دول الخصوم. لكن الموضة الجديدة من هَوَس العقوبات الترامبي، هو تهديد الشركات والدول الحليفة لواشنطن بفرض عقوبات عليها فيما لو شاركت بتنفيذ مشروعات مع الدول المشمولة بالعقوبات.
لكن الأصوات بدأت تعلو في واشنطن لتقول: مهلاً، إن للعقوبات وجه آخر يرتدّ بآثاره السلبية على أميركا نفسها. وهذا الوجه بدأ ينعكس بوضوح في تبدّل الموقف الأوروبي الرسمي والشعبي من الإدارة الأميركية، وقد يكون مرشّحاً للتحوّل إلى نوعٍ من العزلة، وإلى المزيد من التفلّت من قِبَل الدول الوازِنة من القيودة الأميركية، خصوصاً إذا ما توسّعت دائرة المصالح المشتركة بينها وبين الدول المُتعرّضة للعقوبات الأميركية.