الجزائر من بن بله إلى بوتفليقة دولة مؤسسات

الحقيقة أن الكلفة الكبيرة التي تحملتها الجزائر خلال عقد التسعينات، بسبب قرار وقف المسار الانتخابي، ففضلاً عن العطب السياسي والديمقراطي وتخريب الاقتصاد الجزائري واغراق البلاد في الديون، وحجم التمزق المجتمعي والآثار النفسية التي أفرزتها الأزمة، فإن الكلفة البشرية كانت كبيرة جداً.

تُظهر الاحتجاجات في الجزائر وردود الفعل عليها أن الانتقال إلى فترة ما بعد الحكم الطويل لبوتفليقة سيصاحبها عدة تقلبات

منذ إسترجاع الإستقلال يبقى الصراع السياسي في الجزائر بين ثلاثة أطراف، متمثلة في مؤسسات (الجيش والحزب والرئاسة)، ففي بداية الثورة المسلحة، كان الصراع السياسي يتم على أساس الكفاح المسلّح وعليه تمكن تحالف بن بلة- بومدين من استلام السلطة عام 1962، لكن انتقل الصراع بعد ذلك إلى الشخصيتين المتحالفتين أثناء أزمة صيف 1962.

لقد عمل هواري بومدين أثناء فترة حكم بن بلة على تحضير الأرضية الملائمة لأخذ السلطة كاملة، ولهذا السبب عرفت هذه الفترة العديد من الإضطرابات، هذه الإضطرابات وعدم الإستقرار، لم تكن فقط كنتيجة لما وقع في أزمة صيف 1962 وإقصاء الكثير من الزعماء التاريخيين للثورة، بل يبدو أيضاً أن بومدين بذلك استطاع عزل بن بلة عن حلفائه الطبيعيين.

يقول بلعيد عبد السلام رئيس الحكومة الأسبق، "كل مشارك في ثورة التحرير أصبح مشبوهاً خلال مرحلة بومدين، وفي تقييم شخصي منه لمرحلة حكم بومدين يعلق قائد الأركان الأسبق الطاهر الزبيري "بومدين كان يعتمد على الضعفاء الذين لم يكن لهم ماضي، أو نضال فكان يقلدهم المناصب في السلطة"، ويضيف "أنا أتحفظ إزاء إطلاق صفة الثوري على كل من كان في الرباط أو تونس أو غيرها". ويدعم هذا الطرح ما ورد على لسان العربي الزبيري في كتابه "المؤامرة الكبرى". مع انقلاب 19 جوان، ازداد الانحراف خطورة، وفتحت الأبواب للأجانب يعبثون بالمجتمع الجزائري من جهة، ويخربون الاقتصاد الوطني من جهة أخرى، وبالنسبة للمجتمع.. أضحى الخطاب السياسي لا يتحدث إلا عن المجتمع الاشتراكي.

مرت سنوات بومدين وصولاً لتسلُم "الشاذلي بن جديد" السلطة في الجزائر عام 1979، حيث بدأت محاولاته لتطبيق خطته الخمسية التي كانت تهدف إلى إنشاء قواعد للاقتصاد الحر في الجزائر والنهوض بالمستوى الاقتصادي المتعثر للجزائر، ولكن سنوات حكمه شهدت نشاطاً من المفرنسين في مجال معارضتهم لسياسة التعريب التي تنتهجها الحكومة وخاصة في مجال التعليم.

بدأت الجبهة الإسلامية تلعب دوراً بارزاً في السياسة الجزائرية، وتغلبت في الانتخابات على الحزب الحاكم، جبهة التحرير الوطني الذي كان الحزب المنافس الرئيسي في انتخابات عام 1990 مما حدا بجبهة التحرير الوطني إلى إجراء تعديلات في قوانين الانتخابات وكانت هذه التعديلات في صالح الحزب الحاكم، فأدى هذا بالتالي إلى دعوة الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى إضراب عام وقام الشاذلي بن جديد بإعلان الأحكام العرفية في 5 حزيران/يونيو 1991 وتم اعتقال عباسي مدني وعلي بلحاج الارهابيين. وبدأ الصراع في كانون الأول/ ديسمبر عام 1991.

 تطورت الأحداث بسرعة وصولًا لليلة 11-12 كانون الثاني/يناير 1992، كان الجزائريون متسمّرين أمام الشاشات بانتظار بيان قيل إنه مهم وحاسم، فيما كانت البلاد تمر من الدور الأول للانتخابات البرلمانية الذي كان قد تمّ في 26 ديسمبر/ كانون الأول 1991، على أن يجري الدور الثاني في 16 يناير 1992، وذلك بعد سنتين من انتخابات بلدية اكتسحت فيها "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" معظم البلديات والمحافظات.

كان الوضع في حاجة إلى شخصية سياسية مرجعية وتاريخية لترؤس المجلس الأعلى للدولة، ووجدوه في "محمد بوضياف"، الذي استقدمه الجيش من منفاه في المغرب، في 26 كانون الثاني/ يناير 1992، قبل أن يُغتال على يد أحد حراسه في 26 حزيران/ يونيو 1992. بوضياف الذي حكم الجزائر 166 يومًا لم يتمكن من اخراج الجزائر من عنق الزجاجة, وكذلك علي كافي الذي انصبّ المجلس الأعلى للدولة في عهده على تقنين منطق المواجهة والاستئصال. لقد كان وجود علي كافي على رأس السلطة في الجزائر للتأكيد فقط على أنّ الدولة مازالت مستمرة وأنّ الجمهورية مازالت قائمة، ولم يشفع له تمرسّه الديبلوماسي في اعادة جسور التواصل بين الجزائر والدول الأخرى, بل أزدادت الجزائر في عهده عزلة وانطواءاً.

لقد عجز علي كافي عجزاً كاملاً في إيجاد مخرج للأزمة الجزائرية, ربما بسبب كونه لم يحكم أصلاً, بل كان صدى لأصحاب اللعبة الحقيقيين. فمن بوضياف إلى كافي تعمقّت أزمة الشرعية في الجزائر, وتأكدّ للجميع في الجزائر أنّ الحل لا يكمن في ذهاب هذا ومجيئ ذاك, بل أنّ الحل يكمن في اعادة الاعتبار لارادة الشعب الجزائري واعادة صياغة النظام صياغة سياسية بعيدة عن الأوصياء في مواقع الحل والربط وفي مواقع القوة.

يقول كافي: "رفضت أن أبقى في الحكم وسلمت الأمانة لرجل آخر (اليمين زروال)، لأنني أؤمن بالتداول والتناوب (على السلطة)، وقلت حينها من الضروري أن يكون هناك رئيس منتخب". ومعروف أن زروال عيّن رئيسًا للدولة بعد ندوة الوفاق الوطني التي عقدت في شباط/ فبراير 1994، ثم انتخب رئيسًا في العام التالي. يشار إلى أن كافي كان يشارك في المناسبات والأعياد الوطنية، التي كان بوتفليقة يدعوه إليها، على خلاف زروال الذي درج على رفض دعواته بسبب موقفه المعروف منه.

في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1995 فاز اليمين زروال بالانتخابات بأغلبية 60% وأشار المراقبون العرب والدوليون إن الانتخابات كانت نزيهة. وكان التوجه العام للمقترعين هو إيجاد مخرج من دائرة العنف بغض النظر عن الجهة السياسية الفائزة في الانتخابات وبدأ زروال يدفع إلى كتابة دستور جديد للبلاد يمنح الحكومة والرئيس بالتحديد صلاحيات واسعة وتم تمرير هذا الدستور بعد استفتاء شعبي عام.

الحقيقة أن الكلفة الكبيرة التي تحملتها الجزائر خلال عقد التسعينات، بسبب قرار وقف المسار الانتخابي، ففضلاً عن العطب السياسي والديمقراطي وتخريب الاقتصاد الجزائري واغراق البلاد في الديون، وحجم التمزق المجتمعي والآثار النفسية التي أفرزتها الأزمة، فإن الكلفة البشرية كانت كبيرة جداً. فالأرقام عن إجمالي ضحايا الصراع، صادمة حيث تشير إلى سقوط ما بين 120 إلى 200 ألف قتيل، و7400 مفقود، وربع مليون جريح ومتأثر من الحرب، وأكثر من 20 ألف معتقل في محتشدات الصحراء لعناصر الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلّة. كما خسر نصف مليون عامل وموظف وظائفهم. وبلغت الخسائر المادية نحو 50 مليار دولار، وتمّ تخريب 40 ألف مؤسسة إنتاجية، وآلاف المدارس والمؤسسات التعليمية المعطلة وآلاف النازحين من القرى إلى المدن طلباً للأمن.

أفضى كل ذلك إلى قانون الوئام المدني، الذي عُرض في استفتاء شعبي في أيلول/سبتمبر 1999، سامحاً بإنهاء جزء كبير من الأزمة الأمنية وتحقيق استقرار أمني نسبي، لكن معضلات قانونية ظلّت معلقة، خصوصاً ما يتصل بالملفات القضائية للمسلحين التائبين وعائلات المفقودين والمسلحين المقتولين في المواجهات في التسعينات وغيرها. وهو ما دفع بالسلطة وبوتفليقة إلى تطوير هذا القانون إلى قانون المصالحة الوطنية، الذي أقرّ عفواً قضائياً ملغياً كل المتابعات القضائية في حق المسلحين العائدين من الجبل، وتسوية الوضعية القانونية في سجلات الوفاة، والحالة المدنية بالنسبة للمفقودين والمسلحين المقتولين، وتقديم تعويضات مادية لعائلاتهم.

يبقى أن محور التساؤل الحقيقي سيستمر حول هوية مَن سيخلف بوتفليقة بعد أن أقعده المرض ليحكم الجزائر في السنوات الأخيرة وخلافاً لتقدّمه في السن، حيث أن الجماعات المُتنافسة على قمّة السلطة ستحاول التوصّل إلى إجماع حول شخصية توفّق بين مصالحهم التي جمعوها تحت حُكم بوتفليقة، فقد حرص النظام الجزائري عبر مراحل مُشابهة (مرض الرئيس بومدين ووفاته في 78 وبعده انقلاب 92) على تقديم مرشّحين يحظون بقبولٍ شعبي وسمعة جيّدة، لكن لم يجد رجل الإجماع.

هو فراغ على مستوى المرشّحين المُحتملين من داخل النظام ما جعل الجزائر تصل لهذه الحال الهزلية، فرغم كل الخِصال والصفات الشخصية التي اتّصف بها بوتفليقة قبل مرضه في 2013 وطيلة مسيرته الشخصية من دهاء وحنكة سياسية وعزم وتصميم وشجاعة، ورغم كل الإنجازات التي قام بها خلال فتراته الرئاسية الأربع، فإنه لم يهتم أبداً بالإجابة على سؤال خلافته، حتى أنه رفض أن يحوي الدستور منصب نائب الرئيس، الذي يمكن أن يخلفه في حال مرضه الشديد أو موته.

بعد مرور الأعوام،  تُظهر الاحتجاجات في الجزائر وردود الفعل عليها، على أن الانتقال إلى فترة ما بعد الحكم الطويل لبوتفليقة سيصاحبها عدة تقلبات، وقد يكون من بين صفوف الجيش، من يتحكم في المشهد السياسي. فمن المقرر إجراء الانتخابات الرئاسية في الـ 18 أبريل/ نيسان المقبل. وما يوسع دائرة الاستياء بين الشباب، الذين يشكلون أكثر من 40 في المائة من سكان الجزائر، البالغ عددهم 41 مليون، أنهم لم يعايشوا رئيساً آخر غير بوتفليقة، لأن أكثرهم أصغر من 25 عاماً. هؤلاء الشباب يريدون التغيير، وهم ضد إعادة انتخاب نفس الرئيس.

الواقع أنه قد يساعد تماسُك الجيش وحرص القسم الأكبر من المُتظاهرين على سلميّة التحرّك واحترام القوانين قد يساعد في الخروج من الأزمة بأقل الخسائر في المدى المنظور، لكنه لا يضمن حل الأزمة على المديين المتوسّط والبعيد، الأمر الذي يتسدعي تغييرات بنيوية في الاقتصاد واعتماد الشفافية في الحُكم والتخلّي عن الحياد في السياسة الخارجية. 

تقف الجزائر في هذه الأيام على مُفترق طُرُق يمكن منه أن تنطلق نحو مزيد من القوّة والمكانة والمنعة استناداً إلى إنجازاتها ومصادرها وثرواتها المتنوّعة. حتى الآن ترتسم غلبة واضحة باتجاه الطريق الأول والأمل معقود على اتّساع هذه الغلبة وتجسيدها في حل يزيد هذا البلد أمناً واستقراراً.

ومن بين ما تعهّد به بوتفليقة إعداد دستور جديد يُزكّيه الشعب الجزائري عن طريق الاستفتاء، "يكرسُ ميلاد جمهورية جديدة والنظام الجزائري الجديد ووضع سياسات عمومية عاجلة كفيلة بإعادة التوزيع العادل للثروات الوطنية وبالقضاء على كافة أوجه التهميش والاقصاء الاجتماعيين، ومنها ظاهرة الحرقة، بالإضافة إلى تعبئة وطنية فعلية ضد جميع أشكال الرشوة والفساد".