استراتيجية بولتون في الميزان: الإطاحة بالنظام الإيراني لا "تغيير السلوك"

في 25 تموز/ يوليو الماضي، نشر "الميادين نت" تقريراً يوجز حركة الأسطول البحري الأميركي حول العالم وأشارت فيه إلى أن نشاط البحرية يتركّز في المحيط الهادئ بالرغم من التصعيد الكلامي والسِجال حول مضيق "هرمز".

حاملة الطائرات النووية "ترومان"

يومها تحدّثنا عن عودة "مُبكرة" لحاملة الطائرات النووية "ترومان" مع مجموعتها الضاربة إلى قاعدتها في "نورفولك" في ولاية "فيرجينيا"، وعن خروج القطعة البرمائية الحاملة للمروحيات الهجومية "يو أس أس أيو جيما"  عن نطاق عمليات الأسطول الخامس.

في الواقع، في نفس ذلك اليوم، كانت مياه الخليج قد خلت تماماً من القطع البحرية الأميركية الهجومية بخروج "يو أس أس أيو جيما"، واقتصر الوجود الأميركي على كاسِحة ألغام بحرية ترسو قرب ساحل البحرين.

تضع مصادر إيرانية مُطّلعة خلوّ مياه الخليج من القطع البحرية الأميركية للمرة الأولى منذ عقود بأنه يندرج ضمن مؤشرات ومعلومات لدى طهران حول السياسة المقبلة لواشنطن وعنوانها "الإطاحة بالنظام في إيران".

المصادر نفسها تتحدّث عن بدء الانسحاب الأميركي بحراً من مياه الخليج قبل أربعة أشهر تقريباً، بالتوازي مع انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي في أيار مايو الماضي.

تم "تمويه" إعادة الانتشار هذه بإتجاه جنوب شرق آسيا وفي أقصى المحيط الهادئ بذريعة الاستعداد للخطر القادم من الصين وكوريا الشمالية (ومن روسيا)، فتحولّ الأسطول السابع ومقرّه اليابان إلى أكبر تجمّع لقطع بحرية أميركية حيث قارب عددها 47 قطعة مرة واحدة.

تعليمات الإنسحاب من الأسطول الخامس (المعني بمياه الخليج) لم تكن في البداية واضحة لطواقم القطع البحرية الأميركية، وتم إدراجها في سياق اختبار "المرونة العالية" للبحّارة والسفن.

ثم لاحقاً، بدأ ضبّاط الرتب العليا بالحديث عن ضرورة التركيز على شرق آسيا والتنظير لفكرة مفادها أن الوجود البحري الأميركي في الخليج ليس ضرورياً، بل قد يكون "مفيداً" لإيران كون السفن الأميركية قد تتحوّل إلى "هدف" في حال وقوع أي اشتباك.

هذا التوجّه لم يكن وليد صدفة، بل خرج من دائرة العمليات في البحرية وتم دعمه في مراكز الدراسات التابعة لكل من وزارة الدفاع والكونغرس، نتيجة لعدّة جلسات استماع علنية لإيرانيين معارضين للنظام كما للقاءات سرّية انعقدت في أوروبا.

بل ذهب بعض المُحلّلين الرسميين في البنتاغون إلى أن "المخاوف من قيام إيران بإغلاق مضيق هرمز مُبالَغ فيها" لتبرير سحب القطع البحرية الأميركية إلى أماكن أخرى.

بعد انسحاب القطع البحرية الأميركية من الخليج، ازداد الاعتماد العسكري الأميركي على قاعدتيّ "الظفرة" في دولة الإمارات و"العديد" في قطر.

السياق أعلاه لا يؤشّر إلى عمل عسكري مباشر، بل يقع في خانة "العمل الوقائي" بحسب ما تقرأ المصادر الإيرانية الرفيعة المستوى. عمل وقائي تحسّباً لحدث ما من دون المواجهة العسكرية المباشرة ، ولكنه قد يستوجب، في الحسابات الأميركية، رداً إيرانياً عنيفاً.

هذا المؤشّر معطوفاً على ما سيرد لاحقاً يصبّ في خانة المساعي الأميركية للإطاحة بالنظام الإيراني.

يمكن الإشارة إلى المعلومات الإضافية التالية في سياق تأكيد القراءة أعلاه:

  • قبل أي إعلان أميركي عن "مجموعة عمل لأجل إيران"، شكّلت وزارة الخزانة الأميركية مجموعة من عشرات الخبراء المسؤولين عن متابعة العقوبات المالية على إيران. لا تنحصر وظائف هؤلاء الخبراء، الذين يُناهز عددهم الـ400، في التأكّد من تطبيق العقوبات بل يتركّز عملهم على اكتشاف وتحديد كل قنوات التمويل إلى الخارج والداخل وتحديد رجال أعمال إيرانيين يعانون صعوبات مالية، وما شابه من عمليات تصبّ في خانة أمنية، لا اقتصادية فقط. مجموعة بهذا الحجم تشغل طابقين من مبنى وزارة الخزانة الأميركية لا تُعنى فقط بتطبيق العقوبات.

 

  • ما بين مذكرة جون بولتون إلى ترامب حول إيران وإعلان وزير الخارجية الأميركية تشكيل "مجموعة العمل لأجل إيران"، بدا لافتاً ارتفاع العمليات العسكرية ضد القوات الرسمية الإيرانية عند الحدود مع العراق. المجموعات الكردية المعارضة التي تقود هذه العمليات باتت تنادي علناً بالدعم الأميركي المباشر لعملياتها. ليست هذه المرة الأولى التي تطلب فيها هذه المجموعات دعماً عسكرياً، ولكن نشاطها ازداد بشكل لافت مؤخراً. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن إحدى المواضيع الرئيسية التي تقرأها الأجهزة المختصّة في إيران هي طبيعة تشكّل "داعش" وأفرادها وكيفية استفادة السياسة الأميركية منها. تختلف طبيعة المجتمع الإيراني عن دول المحيط و إن كان يحوي امتداداً لها، لذا تتطلّع واشنطن دوماً إلى الأرياف الحدودية البعيدة أكثر عن تأثير المركز عند دراسة أية فرضية لإحداث "شغب" مسلّح.

 

  • لم يكشف بامبيو الكثير عن "مجموعة العمل من أجل إيران" عند الإعلان عنها. لكن قراءة السياق المؤدّي إلى تشكيلها كما فهم طبيعة العلاقات داخل إدارة ترامب حالًيا تفسّر الكثير من السياسة إزاء إيران.  ترأس بومبيو نفسه، حين كان مديراً لوكالة الإستخبارات المركزية، مجموعة عمل مماثلة مختصّة بإيران تحت مُسمّى "مركز المهمة من أجل إيران". هذا المركز لا يزال في الخدمة وهو يضمّ عشرات العُملاء الميدانيين والضباط الأمنيين. مهام المركز أمنية تنفيذية بامتياز. ما الحاجة إذاً إلى تشكيل إطار جديد من أجل إيران؟ في الواقع،  لم يكن أغلب الموظفين في الوكالات الرسمية الأميركية متّفقين مع رغبة ترامب بالإنسحاب من الإتفاق النووي، فقرّر بومبيو تشكيل المجموعة الجديدة بهدف جمع كل الآراء المختلفة ضمن إطار واحد مستقل يخضع في النهاية لرؤية الخارجية والرئيس. بكلمات أخرى، "مجموعة العمل لأجل إيران" هي مقبرة آراء الموظّفين المعارضين للإنسحاب من الإتفاق النووي مع إيران، تحت إدارة وإشراف براين هوك، المستشار السابق لجون بولتون، والدبلوماسي المعروف برفضه للإتفاق النووي منذ البداية. فكيف يتّفق أن يكون هدف المجموعة "تغيير سلوك النظام" إذا كان مديرها لم يقبل أساساً بالتفاوض مع الإيرانيين؟

 

  • لقد مرت الاستراتيجية الأميركية إزاء إيران بأطوار مختلفة من عمليات التخريب الكبيرة، فالإغتيالات إلى دعم الجماعات المسلحة المعارضة فالعقوبات. المختلف هذه المرة أن من يمتلك أذني ترامب، أقصد جون بولتون، شخص معروف تاريخياً بعدوانيته الشديدة ودعواته الصريحة والعلنية للعمل العسكري ضد إيران، كما صرّح عشيّة الإتفاق النووي في مقالة له في "نيويورك تايمز"، ليقضي وقته بعدها متنقلاً في مؤتمرات الجماعات المعارضة لإيران في أوروبا متحدّثاً عن ضرورة تنفيذ انقلاب يُطيح بالنظام الإيراني. وبغضّ النظر عن أيّة تفسيرات أو تقديرات، فإن المؤكد أن قرار إنشاء "مجموعة العمل من أجل إيران" سيضع ترامب نفسه في الزاوية، كون جميع الخيارات غير العسكرية ستصبح بحُكم المستنفذة في حال نجحت إيران في الصمود. وبالتالي فإن أماني بولتون بالخيار العسكري قد لا تظلّ فرضية غير واقعية، عندما سيتّضح أن مجموعة العمل لم تؤتِ بثمارها "الدبلوماسية".